حماية الدين من الدّسّ والتزوير في نهج الإمام الصادق (ع)

 

قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. [سورة الأنعام، الآية: 78].

من أخطر ما تتعرّض له الرسالات السماوية، محاولات الدَّس والتحريف في نصوصها الدينية، الموحاة من قبل الله تعالى في الكتب المقدسة، أو التي صدرت من حامل الرسالة النبي المبتعث من الله، أو الأوصياء من بعده.

وقد تحدّث القرآن الكريم عن بعض اليهود الذين كانوا يحرّفون التوراة في أكثر من آية، كقوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. [سورة البقرة، الآية: 75].

وقوله تعالى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ. [سورة النساء، الآية: 46].

وفي هذه الآية الكريمة، يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. [سورة الأنعام، الآية: 78]، أي يميلون ألسنتهم إلى الاعوجاج بالكتاب، إما بالتحريف والتغيير في الكلمات، أو في طريقة التلفظ بها، لتعطي معنًى آخر، أو في تفسيرها، وهم يوهمون على الناس، حتى لا يكتشفوا تزويرهم وتحريفهم، ليحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، وإنّما من وضعهم وتلفيقهم، إنّهم يقولون على الله الكذب عن عمد وقصد وهم يعلمون.

وحين يتحدّث القرآن الكريم عن بشاعة هذا الانحراف الذي حصل في أوساط أتباع الرسالات السابقة، فإنه يريد تحذير المسلمين من الوقوع في مثله، بأنّ يتلاعب بعض المسلمين بالنصوص الدينية، فيزيدون فيها من اختلاقهم، أو ينقصون منها شيئًا، أو يتعمّدوا تحريف المعاني في تلك النصوص.

حفظ القرآن والخطر على السّنة

وقد تكفّلت العناية الإلهية بحفظ نصّ القرآن الكريم عن التلاشي والضياع والتغيير والتحريف.

يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. [سورة الحجر، الآية: 9].

وهذا ما يؤكّده (استمرار القرآن لدى جميع المسلمين، في صيغةٍ واحدةٍ، فيما يلتزمونه كمصدرٍ للتّشريع، وفيما يقرؤونه في الصّلاة وفي غيرها، وفيما يثيرونه على ضوئه في حياتهم من مفاهيم وعقائد، هو دليلٌ على حفظ القرآن؛ فليس هناك في العالم الإسلاميِّ كلِّه، ولا في غيره، صيغةٌ أخرى أو نسخةٌ أخرى يختلف فيها القرآن لدى مذهبٍ عنه لدى مذهبٍ آخر، بالرّغم من وجود كلماتٍ شاذّةٍ هنا أو هناك، فإنّ مثل هذه الكلمات لم تستطع أن تنفذ إلى مستوى العقيدة العامّة)[1] .

أما المصدر الثاني - بعد القرآن - للمعارف والأحكام الدينية، وهو السنة الشريفة، وما ورد عن أئمة أهل البيت ، فقد استهدفته محاولات الدسّ والاختلاق والتحريف والتزوير، حتى في حياة رسول الله ، ومع وجوده الشريف، حيث نسبت إليه بعض الأقوال كذبًا، مما دفعه للتحذير الشديد من الافتراء عليه، فقال : «إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ ليسَ كَكَذِبٍ علَى أَحَدٍ، مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[2] .

وورد عن أمير المؤمنين علي : «وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذَّابَةُ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ»[3] .

لذلك اجتهد علماء الأمة في وضع ضوابط وقواعد لتمييز الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله ، ومعرفة ما يمكن قبوله منها، وما ينبغي تركه ورفضه، لعدم الاطمئنان بصحته وصدقه.

وتسري المعادلة نفسها على ما ورد عن أئمة أهل البيت من نصوص وأحاديث، فقد حصل كثير من الافتراء والكذب عليهم، ودُسّت في تراثهم كثير من الروايات المختلقة والموضوعة.

انتعاش حركة الوضع والدّسّ

وقد شهد عهد الإمام جعفر الصادق المستوى الأعلى من محاولات الدّسّ والوضع في أحاديث الأئمة ، كما يبدو من سياق الاهتمام الكبير الذي أولاه الإمام الصادق لهذا الأمر الخطير.

ففي عهد إمامته الذي امتدّ لخمسة وثلاثين عامًا، كان يقود حركة علمية تثقيفية واسعة، حيث أتاحت له الظروف السياسية والاجتماعية التصدّي للتدريس والتعليم والإفتاء والتوجيه، وقصده الآلاف من طلبة العلوم والمعارف الإسلامية، حتى أحصى الحافظ بن عقدة (توفي 230هـ) عدد الرواة عنه فناهزوا الأربعة آلاف.

وقد بدأت هذه الحركة العلمية الواسعة من عهد أبيه الإمام محمد الباقر ، ثم تولى الإمام الصادق قيادتها وتطويرها. ومع اتساع هذه الحركة، وكثرة المنتمين إليها والمتفاعلين معها، تتسع فرص الاختراق من قبل الجهات المناوئة، وفرص ظهور حالات انحراف فكري أو سلوكي في أوساط الملتفين حول الإمام.

كان إظهار الانتماء لأهل البيت أو نقل الحديث عن أئمتهم، أثناء قوة الحكم الأموي، أمرًا بالغ الحساسية والخطورة، حتى إنّ بعض من كانوا يروون الحديث عن الإمام علي لا يجرؤون على ذكره باسمه، بل يكنّونه خوفًا من بطش السلطة الأموية.

فقد نقل الحافظ الموفق بن أحمد المكي عن الإمام أبي حنيفة قوله: (كان علي لا يذكر في ذلك العصر باسمه، وكانت العلامة بين المشايخ أن يقولوا: قال الشيخ. وكان الحسن البصري يقول فيه: أخبرنا أبو زينب)[4] .

لكنّ الأمر صار مختلفًا بداية سلطة العباسيين، فقد أصبح الانتساب إلى مدرسة الإمام الصادق، والتردد على مجلسه، والرواية عنه، مصدر فخر واعتزاز في ساحة الأمة. فهذا الإمام مالك يقول: (لقد كنت أرى جعفر بن محمد فإذا ذكر عنده النبي اصفرّ لونه، وما رأيته يتحدّث عن رسول الله إلّا على طهارة، ولقد اختلفتُ إليه زمانًا، فما كنت أراه إلّا على ثلاث خصال إما مصلّيًّا وإما صامتًا، وإما يقرأ القرآن)[5] .

وروى المزي عن تهذيب الكمال عن الإمام أبي حنيفة قوله: (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد)[6] .

وقال الآلوسي: (هذا أبو حنيفة وهو من أهل السنة يفتخر ويقول بأفصح لسان: (لولا السنتان لهلك النعمان)، يعني السنتين اللتين حضر فيهما لأخذ العلم من الإمام جعفر الصادق)[7] .

وقال محمد بن طلحة الشافعي: (نقل عنه الحديث واستفاد منه (أي الإمام جعفر الصادق) جماعة من الأئمة وأعلامهم، مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوري، وابن عيينة، وشعبة، وأيوب السختياني، وغيرهم، وعدّوا أخذهم عنه منقبة شُرّفوا بها، وفضيلة اكتسبوها)[8] .

وقال الحسن الوشاء: رأيت في مسجد الكوفة سبعمائة شيخ كلٌ يقول: حدّثني جعفر بن محمد.

الدواعي والأغراض

في ظلّ هذا الانتعاش لمدرسة أهل البيت ، وبروز مكانة الإمام جعفر الصادق في وسط الأمة، حاولت بعض الأطراف المغرضة تمرير أفكارها المنحرفة إلى جمهور أتباع أهل البيت ، بنسبتها إلى الإمام ، أو إلى آبائه الطاهرين، ودسّها ضمن ما يروى عنهم.

وكانت دواعي الاختلاق والكذب على الأئمة متعدّدة مختلفة، يهمّنا منها الدواعي والأغراض المنبعثة من داخل المجتمع الموالي لأهل البيت ، حيث تحوّل الأمر إلى ما يشبه الظاهرة، كما يبدو من بعض الروايات عن الإمام الصادق ، فقد ورد عنه : «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ صَادِقُونَ لَا نَخْلُو مِنْ كَذَّابٍ يَكْذِبُ عَلَيْنَا فَيُسْقِطُ صِدْقَنَا بِكَذِبِهِ عَلَيْنَا عِنْدَ النَّاسِ»[9] .

وهنا يشير الإمام حسب هذه الرواية، إلى أحد أهم آثار الكذب على الأئمة، وهو إسقاط الثقة بما يصدر عنهم في أوساط الأمة.

وجاء عنه : «إنّ الناس أَوْلَعُوا بالكذب علينا، كأنّ اللّه افترض عليهم لا يريد منهم غيره، وإنّي أحدّث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك إنّهم لا يطلبون بحديثنا وبحبّنا ما عند اللّه، وإنّما يطلبون به الدنيا، وكلّ يحب أن يدعى رأسا»[10] .

وفي هذه الرواية يتحدّث الإمام بحرقة بالغة، وألم كبير، عن قوة ظاهرة الوضع والكذب عند البعض على الأئمة، وكأنّها تنبعث من حالة ولع، أي إغراء وغرام بالإساءة إليهم، من أوساط تتظاهر بحب أهل البيت والاهتمام بحديثهم، لكنّهم يفتقدون الإخلاص لله في ذلك، بل يطلبون المكاسب الدنيوية، ويتنافسون على الزعامة تحت شعار حبّ أهل البيت.

وجاء في الكافي بسندٍ معتبر عن أبي بصير قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ [جعفر الصادق ] يَقُولُ‌: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً حَبَّبَنَا إِلَى النَّاسِ وَلَمْ يُبَغِّضْنَا إِلَيْهِمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ يَرْوُونَ مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَكَانُوا بِهِ أَعَزَّ وَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ بِشَيْ‌ءٍ وَلَكِنْ أَحَدُهُمْ يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إِلَيْهَا عَشْرًا»[11] .

ويبدو من سياق هذه الرواية، أنّ الإمام يتحدّث عن شريحة من أتباعه، كانوا لا يقتصرون في نقلهم عن الإمام، على نصِّ ما يقوله، بل يضيفون إليه من عندهم إضافة كثيرة «يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إِلَيْهَا عَشْرًا»، وإنّ هذه الإضافات والزيادات التي يلصقونها بكلام الإمام، تكون سببًا لتنفير الناس من خطّ أهل البيت ، والإساءة إلى شيعتهم، ولولا حصول مثل هذا الوضع والإضافة، لما تعرّض الشيعة للإذلال والمؤاخذة.

ويشير الإمام الصادق - كما في بعض الروايات - إلى أنّ هناك عملًا منظّمًا من قبل الغلاة للدّس والوضع في أحاديث أهل البيت ، فقد روى يونس بن عبدالرحمن عن هشام بن الحكم أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِاَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: «كَانَ اَلْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ يَتَعَمَّدُ اَلْكَذِبَ عَلَى أَبِي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَيَأْخُذُ كُتُبَ أَصْحَابِهِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ اَلْمُسْتَتِرُونَ بِأَصْحَابِ أَبِي يَأْخُذُونَ اَلْكُتُبَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي فَيَدْفَعُونَهَا إِلَى اَلْمُغِيرَةِ فَكَانَ يَدُسُّ فِيهَا اَلْكُفْرَ وَاَلزَّنْدَقَةَ وَيُسْنِدُهَا إِلَى أَبِي عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثُمَّ يَدْفَعُهَا إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَبُثُّوهَا فِي اَلشِّيعَةِ فَكُلُّ مَا كَانَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنَ اَلْغُلُوِّ فَذَاكَ مِمَّا دَسَّهُ اَلْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كُتُبِهِمْ»[12] .

مواجهة الإمام لحركة الدّسّ والتزوير

وقد تصدّى الإمام الصادق لهذه الظاهرة الخطيرة، بكلّ جدية واهتمام، عبر عدد من الوسائل والأساليب، ومن أبرزها ما يلي:

أولًا: لفت الأنظار إلى وجودها والتحذير منها، وتبيين آثارها الخطيرة، بتحريف الدين، وتشويه الصورة المشرقة لمدرسة أهل البيت .

ونجد في بعض الروايات الواردة عن الإمام جعفر الصادق ، أنه يشدد على من يتحدّث إليه ألا ينقل عنه مالم يقل، ولا يكذب عليه، ما يشير إلى انزعاج الإمام وتحسسه من وجود هذه الظاهرة السيئة، وقد جاء في رواية أنه : «يَا أَخَا أَهْلِ الشَّامِ، اسْمَعْ حَدِيثَنَا وَلَا تَكْذِبْ عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيْنَا فِي شَيْ‌ءٍ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ عَذَّبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»[13] .

وفي رواية أخرى عنه أنه قال: «اَلْكَذِبُ عَلَى اَللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى اَلْأَوْصِيَاءِ عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مِنَ اَلْكَبَائِرِ»[14] .

ثانيًا: كشف وفضح العناصر المتورطة في عمليات الكذب والوضع والدّسّ، والبراءة منهم ولعنهم. كأبي الخطاب والمغيرة بن سعيد.

ثالثًا: تقرير منهج ومعيار تعرض عليه أحاديث أهل البيت ، وهو الموافقة لكتاب الله وسنة رسوله .

عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ [جعفر الصادق ] عَنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ يَرْوِيهِ مَنْ نَثِقُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا نَثِقُ بِهِ، قَالَ : «إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَهُ شَاهِدًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ وَإِلَّا فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلَى بِهِ»[15] .

وعَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ [جعفر الصادق ] يَقُولُ:‌ «كُلُّ شَيْ‌ءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ‌»[16] .

رابعًا: إشرافه المباشر على ما يكتبه بعض أصحابه من الحديث، وإقراره الصحيح منه. حيث عرض عبيدالله الحلبي كتابه على الإمام الصادق فاستحسنه[17] .

كما أنّ بعض كبار أصحابه الثقاة كان يقوم بمثل هذا الدور، لتنقية التراث المروي عن أئمة أهل البيت .

فقد جاء في الكافي عن عُمَر بْن أُذَيْنَة قال: (قُلْتُ لِزُرَارَةَ: فَإِنَّ أُنَاساً حَدَّثُونِي عَنْهُ [أي الإمام الصادق] وَعَنْ أَبِيهِ بِأَشْيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ فَأَعْرِضُهَا عَلَيْكَ فَمَا كَانَ مِنْهَا بَاطِلًا فَقُلْ هَذَا بَاطِلٌ، وَمَا كَانَ مِنْهَا حَقًّا فَقُلْ هَذَا حَقٌّ)[18] .

وعلى هذا النهج من تنقية التراث الديني من الدّسّ والتحريف سار الأئمة من ولد الإمام الصادق ، وربّوا أصحابهم عليه، فقد كان يونس بن عبدالرحمن وهو أحد خواص الأئمة مهتمًّا بهذا الموضوع، حتى سأله أحدهم قائلًا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَا أَشَدَّكَ فِي الْحَدِيثِ وَأَكْثَرَ إِنْكَارَكَ لِمَا يَرْوِيهِ أَصْحَابُنَا، فَمَا الَّذِي يَحْمِلُكَ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِاللَّهِ يَقُولُ: «لَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا حَدِيثًا إِلَّا مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، أَوْ تَجِدُونَ مَعَهُ شَاهِدًا مِنْ أَحَادِيثِنَا الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ لَعَنَهُ اللَّهُ دَسَّ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي أَحَادِيثَ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا أَبِي، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا مَا خَالَفَ قَوْلَ رَبِّنَا تَعَالَى وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا ، فَإِنَّا إِذَا حَدَّثْنَا قُلْنَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ».

قَالَ يُونُسُ: وَافَيْتُ الْعِرَاقَ فَوَجَدْتُ بِهَا قِطْعَةً مِنْ أَصْحَابِ أَبِي جَعْفَرٍ وَوَجَدْتُ أَصْحَابَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُتَوَافِرِينَ فَسَمِعْتُ مِنْهُمْ وَأَخَذْتُ كُتُبَهُمْ، فَعَرَضْتُهَا مِنْ بَعْدُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا فَأَنْكَرَ مِنْهَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي عَبْدِاللَّهِ وَقَالَ لِي: «إِنَّ أَبَا الْخَطَّابِ كَذَبَ عَلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ لَعَنَ اللَّهُ أَبَا الْخَطَّابِ! وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي الْخَطَّابِ يَدُسُّونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِاللَّهِ ، فَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا خِلَافَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّا إِنْ تَحَدَّثْنَا حَدَّثْنَا بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَ مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ إِنَّا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ نُحَدِّثُ، وَلَا نَقُولُ قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَيَتَنَاقَضَ كَلَامُنَا إِنَّ- كَلَامَ آخِرِنَا مِثْلُ كَلَامِ أَوَّلِنَا وَكَلَامَ أَوَّلِنَا مُصَادِقٌ‌ لِكَلَامِ آخِرِنَا، فَإِذَا أَتَاكُمْ مَنْ يُحَدِّثُكُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَرُدُّوهُ عَلَيْهِ وَقُولُوا أَنْتَ أَعْلَمُ وَمَا جِئْتَ بِهِ! فَإِنَّ مَعَ كُلِّ قَوْلٍ مِنَّا حَقِيقَةً وَعَلَيْهِ نُورًا، فَمَا لَا حَقِيقَةَ مَعَهُ وَلَا نُورَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّيْطَانِ»[19] .

ولا يزال العلماء المخلصون المحققون يواصلون السير على نهج الإمام الصادق ، في حماية الدين من الدسّ والتزوير، ويبذلون جهودهم لتنقية التراث الديني، وما ورد عن الأئمة أهل البيت ، مما ألصق به من أحاديث موضوعة وروايات مختلقة.

إعادة الاعتبار لتراث الغلو والتزوير

وفي وقتنا الحاضر ومع تألّق ظهور مدرسة اهل البيت ، نجد أنّ هناك جهودًا محمومة تبذل من بعض الجهات والأطراف، لإعادة بعث وترويج الروايات الفاقدة للاعتبار، وتوثيق الرواة الموصوفين بالغلو، والأخذ بالأسانيد الضعيفة، والرجوع إلى المصادر غير المعتمدة، أو التي لم تتأكد نسبتها لمؤلفيها، واستخدام المنابر الدينية والقنوات الفضائية لترويجها.

وقد حذّرت المرجعية الدينية العلماء والخطباء والشعراء والمنشدين، من الوقوع في هذا المنحى الخطير على الدين، والمخالف لنهج الائمة ، كما جاء في عدد من البيانات الصادرة عن مكتب السيد السيستاني حفظه الله.

وتحدّث عن ذلك نجله الفقيه السيد محمد رضا السيستاني بقوله: (إنّ من أهم ما تميّز به الإمام الخوئي رضوان الله عليه هو منهجه العلمي الرصين في التعامل مع الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت ، والتزامه الصارم بنقدها من حيث مصادرها وأسانيدها ومتونها، وعدم التعويل إلّا على المعتبر منها من جميع الجهات، وكذلك إبرازه لدور علم الرجال وأهميته الفائقة في استنباط الأحكام الشرعية، والوصول إلى المعارف الإسلامية الأصيلة).

(إنّ أهمية ما قام به الإمام الخوئي (قدّس سرّه) تتجلّى في هذا المجال بملاحظة المحاولات التي يقوم بها البعض في هذه الأيام، لإرجاع عجلة الفكر إلى الوراء، بالترويج لنمط من الأفكار المبنية على الأخذ بروايات الوضّاعين والضعفاء وما بحكمها، مما ورد في المصادر غير المعتبرة، وعدّ ذلك كلّه من علوم الأئمة الطاهرين ، والبناء عليه في تحديد معالم مدرستهم الفكرية العظيمة).

(إنّ التمسك بمنهج الإمام الخوئي (أعلى الله مقامه) في نقد الأحاديث وتمحيصها والتدقيق فيها، كفيل بإفشال هذه المحاولات الغريبة، التي لو قُدِّر لها شيء من النجاح فإنّها ستؤثر سلبًا على المسيرة الفكرية لأتباع أئمة أهل البيت ، ولن يحدث ذلك إن شاء الله تعالى)[20] .

وإذا كان السيد السيستاني يتفاءل ويرجو أن يكون المستقبل في الساحة العلمية والدينية لصالح خطّ التنقيح والتحقيق، وتنقية تراث أهل البيت مما ألصق به، فإنّ هذا التفاؤل والرجاء لا يتحقق إلّا بمضاعفة الجهود العلمية على هذا الصعيد، وتبنّي الواعين في المجتمع الشيعي لهذا الاتجاه، وعدم الاستسلام والتهيّب من الاتجاه الذي يعتمد إثارة ودغدغة المشاعر العاطفية، على حساب الضوابط العلمية والمبادئ الدينية.

 

خطبة الجمعة 15 ذو القعدة 1445هـ الموافق 24 مايو 2024م.

[1]  تفسير من وحي القرآن، ج10، ص166.
[2]  صحيح البخاري، ح1291.
[3]  الكافي، ج1، ص62، ح1.
[4]  الإمام الموفق بن أحمد المكي: مناقب أبي حنيفة، ج1، ص146. (دار الكتاب العربي - بيروت، 1401هـ)
[5]  ابن تيمية: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ج1، ص129، ح379. (مكتبة الفرقان - عجمان، ط1، 1422هـ)
[6]  تهذيب الكمال، ح5، ص79. وتذكرة الحفاظ، ج1، ص166.
[7]  التحفة الاثني عشرية، ص8، مناقب أبي حنيفة، ج1، ص172.
[8]  مطالب السؤول، ص81.
[9]  رجال الكشي، ج1، ص305، ح549.
[10]  تنقيح المقال في علم الرجال، ج28، ص102.
[11]  الكافي، ج8، ص229، ح293.
[12]  الشيخ محمد آصف المحسني: معجم الأحاديث المعتبرة، ج1، ص194، ح 266/ 187.
[13]  الكافي، ج4، ص187، ح1.
[14]  من لا يحضره الفقيه، ج3، ص168، ح4941.
[15]  الكافي، ج1، ص69، ح2.
[16]  المصدر السابق، ج1، ص69، ح3.
[17]  الفهرست للشيخ الطوسي، ص174، رقم: 466.
([18]9 الكافي، ج7، ص95، ح3.
[19]  رجال الكشي، ج1، ص225، ح401.
[20]  درس سماحته الفقهي (بحث الخارج) بتاريخ الأربعاء 22 صفر 1438هـ. https://www.kitabat.info/subject.php?id=108789