عاشوراء: تطلعات وآفاق

في بداية كل سنة هجرية يستقبل المسلمون ذكرى شهادة الإمام الحسين سبط رسول الله، واعتادت المجتمعات الإسلامية الشيعية، الاحتفاء بهذه الذكرى، استجابة لتوجيهات أئمة أهل البيت ، وأصبحت العشرة الأولى من المحرم موسما حسينيا، يمتلئ بالبرامج المكثفة، والنشاط الاجتماعي، الذي يشارك فيه كل أبناء المجتمع، ما يعطيه طابعا استثنائيا. والاحتفاء بذكرى عاشوراء ينطلق من دافع ديني ذاتي عند الجمهور الاسلامي الشيعي، ولاء لأهل البيت، وتبذل في برامج هذا الاحتفاء جهود كبيرة وإمكانات ضخمة، ضمن نشاط جماهيري أهلي، تشارك فيه كل الفئات والطبقات.

وتوفر أجواء عاشوراء، وبرامجها فرصا هائلة، يمكن استثمارها والاستفادة منها في تنمية هذه المجتمعات، وتعميق الحالة الدينية، ومعالجة الكثير من المشكلات الاجتماعية، فالنفوس مهيأة، والتفاعل كبير، وما يسمعونه من سيرة الإمام الحسين يجعلهم أكثر استعدادا للتجاوب والعطاء، لكن البعض يمارس هذه البرامج كطقوس تقليدية، وشعائر متوارثة، من دون أن يهتم باستثمارها وتوظيفها لخدمة المصلحة العامة للمجتمع والوطن.

فهي ثروة عظيمة يمكن أن تقدم الكثير من الخير والعطاء للمجتمع، فأين تجد مثل هذه الجموع والحشود التي تأتي بشكل عفوي تلقائي من دون تعبئة إعلامية، ولا حوافز ولا مغريات مادية، وعلى مدار عشرة أيام صباحا ومساء؟ وأين تلقى مثل هذا التفاعل والتجاوب العاطفي الجياش؟ ومتى ترى مثل هذا البذل السخي في المال من قبل الفقراء قبل الأغنياء؟

كل ذلك يتوافر في موسم المحرم عند المجتمعات الإسلامية الشيعية للاحتفاء بذكرى الحسين. فكيف يستفاد من هذه الثروة؟ وكيف نغتنم ما توفره من فرص إيجابية كبيرة؟


تعميق التدين


هذا الجمهور الذي يحتشد باسم الإمام الحسين، ويصرف الوقت والجهد في إحياء ذكراه، ويصغي إلى الخطباء والموجهين في مجالس العزاء، إنما يعلن انتماءه الى الدين، وانشداده القلبي والعاطفي إلى أئمة الدين وقياداته، وتجاوبه مع الشعائر والقضايا الدينية، وهذا يحملنا المسئولية، ويوفر الفرصة الثمينة، لتوعية هذا الجمهور بأمور دينه، ولتعميق حالة التدين في النفوس، وصوغ السلوك والأخلاق والمواقف على هدي الدين.

إن برامج عاشوراء تتيح أفضل فرص التوعية والتوجيه، والناس بحاجة ماسة إلى معرفة مفاهيم الدين الحقيقية، وتجليتها عن غبار الزيف، وتراكمات الفهم القشري والسطحي، ومع استغراق إنسان هذا العصر في الاهتمامات المادية الجارفة، وتعرضه الدائم لوسائل الإعلام التي تحرض على الشهوات والأهواء، لتجعل منه إنسانا ماديا شهوانيا، يبحث عن اللذة، ويعبد المصلحة، ما أحوج هذا الإنسان لأجواء روحية تعبوية، تذكره بالقيم، وتشده إلى المبادئ، وتوجهه إلى القدوات الصالحة من الأنبياء والأئمة والأولياء.


التـنمية الاجتماعية


عبر برامج عاشوراء يلتقي الناس بما يؤكد وحدتهم الاجتماعية، ويرسخ عندهم الشعور الجمعي، وفي المجتمع حاجات ومناطق ضعف، وثغرات وسلبيات، لابد من استثمار هذه البرامج لتوجيه الناس الى مواجهتها ومعالجتها.

فعلى المستوى التعليمي ينبغي تحفيز الطلاب على الجد والاجتهاد لإحراز التفوق، ونيل أفضل المستويات، ولا يصح أبدا التغاضي عن انخفاض المستوى التعليمي، لما يترتب على ذلك من تأخر وتخلف.

وعلى المستوى العملي والوظيفي على أبناء المجتمع أن يشمروا عن سواعدهم، وأن يسهموا في بناء وطنهم، عبر إخلاصهم في العمل، والبحث عن الفرص والمشروعات الجديدة، وتوفير الكفاءة والخبرة في مجالات التكنولوجيا، وألا يرهنوا مستقبلهم بتحصيل الوظائف الجاهزة، ويعتبروها الخيار الوحيد لبناء حياتهم.

واجتماعيا هناك مناطق ضعف في المجتمع من فقراء وأيتام ومرضى، وهناك حاجات ومتطلبات للخدمة الاجتماعية، فينبغي التذكير بالمسئولية الاجتماعية، وتشجيع المؤسسات العاملة مثل الجمعيات الخيرية الرسمية، وما يتفرع عنها من لجان كافل اليتيم، وصناديق الزواج الخيري ومهرجان الزواج الجماعي وغيرها، لتنهض بدورها ومهماتها في هذا المجال. فبإمكان أجواء المحرم أن توفر زخما معنويا كبيرا لصالح تنمية المجتمع وخدمة أغراضه النبيلة.


دراسة عاشوراء


قد نقرأ عاشوراء قصة تاريخية حدثت وقائعها في زمان ومكان معين، ومن قبل أشخاص معينين.

وقد نقرأها صراعا بين فئتين على أهداف وقضايا مختلفة. وقد نقرأها مأساة تستثير عواطفنا ومشاعرنا. لكن المطلوب أن نقرأها ملحمة دينية وإنسانية ملهمة، نقتبس منها الدروس والعبر، ونأخذ منها القيم والمثل.

ففي وقائع عاشوراء يتجلى الالتزام الصادق بالدين، والتضحية من أجل مبادئه، وترتسم أروع صور الوفاء، ومواقف البطولة.

في كربلاء كان هناك الشاب الذي كرس شبابه لخدمة الرسالة والأمة، والمرأة التي كافحت بحجابها ومنطقها وصمودها، والشيخ الطاعن في السن الذي لم يقعد به ضعفه وشيبته عن المشاركة في معركة الفداء، والأخ الوفي المواسي لأخيه في أحلك الظروف، والجماعة المؤمنة التي لم تتوان عن أداء الصلاة عند وقتها تحت مشتبك الرماح، والمصابون المثكلون الذين لم تنل الرزايا والخطوب الفادحة من ثباتهم واستقامتهم.

إنها صور رائعة، ودروس عظيمة، يجب أن نقرأها، لنستلهم منها القيم والعبر، بما ينفعنا لإصلاح حاضرنا وبناء مستقبلنا على ضوء المبادئ والقيم.


بناء الوحدة الوطنية والإسلامية


التحديات التي تواجهنا على المستوى الوطني والإسلامي، يجب أن تدفعنا جميعا إلى التوحد والتلاحم، وتنوعنا المذهبي لا يبرر التباعد والخلاف، مادمنا نتفق على الأصول، ويجمع بيننا الوطن الواحد والمصلحة المشتركة.

وبرامج عاشوراء يمكن الاستفادة منها في تعزيز الوحدة الوطنية والإسلامية، بأن تكون لغة الخطاب إسلامية تتجاوز الإثارات والمهاترات الطائفية، وأن تشكل برامج عاشوراء فرصة مناسبة لاطلاع بقية المسلمين على آراء وممارسات إخوانهم الشيعة، اذ راجت في بعض الأوساط إشاعات وانطباعات مشوهة خاطئة عن حقيقة معتقدات الشيعة، وكيفية إحيائهم لموسم المحرم. والحمد لله فالحسينيات مفتوحة في كل مكان في العالم، والبرامج علنية، فليس هناك مبرر للتشبث بالشائعات والدعايات المغرضة، مادامت فرصة التعرف المباشر متاحة. وذكرى الإمام الحسين يجب أن تكون مناسبة لتعزيز وحدة الأمة، فالحسين قضية إسلامية عامة، وليس مشروعا مذهبيا خاصا، وهو إنما ثار واستشهد من أجل إصلاح الأمة ومصلحتها، كما يقول : «إني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق. ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين». فسلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.

.