المواجهة مع اليهود

الشيخ حسن الصفار *

ينطلق اليهود في تعاملهم مع سائر المجتمعات من عقلية عنصرية استعلائية، تغذيها كتبهم الدينية المليئة بالأساطير والتحريفات، فهم يعتقدون أنهم أبناء الله على الحقيقة لا على المجاز، كما جاء في سفر التثنية من التوراة المتداولة لديهم، (الإصحاح 7): (أنتم أولاد الرب إلهكم). وأن آدم كانت له حسب ما ورد في التلمود، عشيقة من الجن أنجب منها أطفالاً، كما أن حواء كان لها عشاقها من الجن أيضاً، وأنجبت منهم كذلك، فهؤلاء الذين أنجبهم آدم من غير حواء، أو حواء من غير آدم، هم أصل سائر الناس، أما أولاد آدم الشرعيين من حواء فهم اليهود.

فأرواح اليهود - في زعمهم - تتميز عن باقي الأرواح بأنها جزء من الله، وهي أرواح عزيزة عند الله، والإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وإذا ضرب غير اليهودي يهودياً فكأنما ضرب العزة الإلهية ويستحق الموت، والفرق بين اليهودي وغيره هو كالفرق بين الإنسان والحيوان[1] . من هنا يكون مفهوما ما صرح به أحد القادة العسكريين الإسرائيليين المشاركين في تنفيذ قصف قرية (قانا) في جنوب لبنان والذي أسفر عن قتل ما يقارب المائتين قتيلاً مدنياً فيهم عدد من النساء والأطفال، صرّح هذا العسكري لمجلة (كول هعير) -كل المدينة- الإسرائيلية قائلاً إنه: لم يعتبر المأساة خطأ وان الأمر لا يتعلق بأكثر من (عرابوشيم) -أي العرب- وأن هناك ملايين العرب على أي حال!![2] 

ونفهم أيضاً كيف اعتبر الإسرائيليون مقتل اثنين من جنودهم في رام الله مبرراً لهستيريا القمع والإرهاب التي مارسوها في الأراضي الفلسطينية هذه الأيام.

ويقول الدكتور حسن ظاظا المتخصص في دراسة تاريخ اليهودية واليهود:

إن اليهود يحتقرون غيرهم من الشعوب ويطلقون عليهم (جوييم)، واقترنت كلمة (جوى) في عقولهم بالزراية والاحتقار، فإذا قال اليهودي عن شخص أو شيء أنه (جوى) فهو يعني بذلك أنه همجي بربري يجمع القذارة والنجاسة والاحتقار.

فالتراث اليهودي الموثق في التلمود والمدراش يوحي بألوان من التعصب اليهودي ضد أمم العالم، من ذلك أنهم يحرمون أن ترضع المرأة الإسرائيلية طفلاً من غير اليهود، حتى وإن تعرّض للموت من الحرمان من الغذاء، بل تحرم على اليهودي كائناً من كان أن يصدق في النصيحة لوجه الله لرجل غير يهودي، أو أن يعيد إلى غير اليهودي شيئاً فقد منه
[3] .

وحسب هذه النظرة العنصرية الاستعلائية يتصرف اليهود في علاقاتهم مع باقي البشر، وهي تشكل توجههم العام، وإذا ما تمرد بعض مفكريهم واعترض على هذا التوجه العنصري، فإنهم يرمونه بالكفر ويحاصرون دعوته في أوساطهم كما حصل للطبيب اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون (1135-1204م) وللفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677م) ومن بعده المفكر اليهودي موسى مندلسون (1729-1786م) والذي تكتل المتعصبون اليهود ضده ووصموه بالكفر، وحرموا كتبه، بل كانوا يبحثون عنها في الأسواق ويعدمونها قبل أن تصل إلى أيدي القراء[4] .

وتحدث القائد الهندي (جواهر لال نهرو) عن هذه الظاهرة العنصرية عند اليهود وما سببت لهم من رد فعل من قبل المجتمعات البشرية الرافضة لسلوكهم الاستعلائي العنصري قائلاً: (اليهود شعب عجيب. كانوا في السابق قبيلة صغيرة أو عدة قبائل تسكن فلسطين، ورد تاريخها في العهد القديم في التوراة. وكانوا وما زالوا يظنون أنهم شعب الله المختار. ويظهر أن هذا الظن قد جنى عليهم كثيراً، فغزاهم الغزاة وأخضعوهم وأسروهم... وأخيراً تفرق هؤلاء اليهود في مختلف أنحاء العالم. فلم يكن لهم بيت أو وطن، وأينما حلوا كانوا يعاملون معاملة الغرباء غير المرغوب فيهم، حتى أن كلمة اليهودي أصبحت مرادفة للبخل والربا)[5] .



في مواجهة الإسلام:


التعصب العنصري وعقلية الاستعلاء هي من أسباب رفض اليهود للدعوة الإسلامية، رغم أنهم كانوا يتحدثون لقبائل العرب في المدينة ومكة، عن ظهور نبي موعود في تلك المنطقة يقرأون صفاته في توراتهم، ولكنهم كانوا يعتقدون أن ذلك النبي لا بد أن يكون من أبنائهم، فلما ظهر رسول الله من وسط قريش العرب، ومع انطباق كل الصفات التي في التوراة عليه، غاض ذلك اليهود إذ كيف يخضعون لقيادة من غيرهم، وهم شعب الله المختار، وسواهم أدنى منهم حسب زعمهم. لذلك كانوا يروجون لمقولة: لا يبعث الله نبياً من العرب. ويقول الله تعالى عن موقفهم الاستكباري: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ[6] .

ولم يقفوا عند حدود الرفض للدعوة، بل جندوا طاقاتهم وقدراتهم لعرقلة مسيرة الإسلام، والتآمر على كيانه الناشئ في المدينة المنورة، لأن ظهور الإسلام أفقدهم ما كانوا يريدونه من مكانة مميزة، ودور يتفوقون فيه على من حولهم، ويسيطرون على مقدراتهم.

وساءهم أن يتوحد أهل المدينة من الأوس والخزرج تحت راية الإسلام، بعد أن كانوا متحاربين وكان اليهود يغذّون بينهم حالة الصراع لإضعافهم أمام الأطماع اليهودية، كما أن تحريم الإسلام للربا وجه ضربة لهيمنتهم الاقتصادية على أهل يثرب عن طريق الربا.

وانطلاقاً من إنسانية الإسلام، وإقراره لحرية العقيدة، وتشريعه لمنهج التسامح والتعايش، فإنه لم يبادر اليهود بأي موقف عداء، ونهى أتباعه أن يتناقشوا معهم في أمر الدعوة إلا بأفضل أسلوب ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [7] .

بل وقّع الرسول مع مختلف قبائل اليهود في أنحاء المدينة وأطرافها معاهدة تنص على التعايش وحسن الجوار وعدم الاعتداء والدفاع المشترك عن منطقة يثرب. وهي ما عرف بصحيفة المدينة.

لكن العقلية العنصرية لم تسمح لهم بالقبول بالمشاركة مع الآخرين على مستوى واحد من الحقوق والالتزامات المتبادلة، ولا أن يسكتوا على نمو قوة كيان جديد متحرر عن نفوذهم وهيمنتهم، لذلك بدأوا يحيكون المؤامرات، ويدعمون القوى المعادية للإسلام من كفار قريش إلى المنافقين داخل المدينة، ويمارسون مختلف الاستفزازات للدولة الإسلامية الفتية، رغم المعاهدات الموقعة، ورغم محاولات الرسول لتحذيرهم ونصحهم. يقول تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [8] .

مع ذلك لم يتخذ الرسول موقفاً عاماً تجاه كل اليهود، وإنما كان يتصدى للفئة التي تمارس العدوان والاستفزاز منهم، عسى أن تكون عبرة لبقيتهم فيكفوا عن التآمر ويلتزموا بالمعاهدات والمواثيق في حسن الجوار والتعامل.



سياسة القوة والردع:


كانت البداية مع يهود بني قينقاع وهم من سكان المدينة، وبيدهم ثروة اقتصادية، ولهم حصون حربية، وقد حذرهم الرسول من تصرفاتهم المعادية، لكنهم لم يرتدعوا عنها، واستمروا في استفزاز مشاعر المسلمين، فاضطر لمحاصرتهم، منتصف شوال للسنة الثانية من الهجرة، فقاوموا الحصار خمس عشرة ليلة، تخللتها مناوشات واشتباكات، ثم تفاوضوا مع الرسول ، فاشترط عليهم الجلاء عن المدينة، فرحلوا عنها إلى اذرعات الشام، وارتاح المسلمون من مضايقاتهم واستفزازاتهم المستمرة.

وبعد سنتين تقريباً من هذه الحادثة خطط يهود بني النضير القاطنون في ضواحي المدينة، والذين كانوا يمثلون قوة اقتصادية ضاربة، خططوا لاغتيال رسول الله ، وتآمروا على قتله في ديارهم، بأن يلقوا عليه صخرة حينما كان جالساً في ظل أحد حيطان حصونهم، واكتشف الرسول المؤامرة بملاحظته أو بأخبار من الوحي، فبادر للخروج قبل لحظات من تنفيذها، وهناك أنذرهم الرسول بالخروج من تلك المنطقة، والجلاء عنها وأعطاهم مهلة عشرة أيام، فرفضوا الإنذار في البداية، ثم حاصرهم المسلمون، وكانت حصونهم منيعة قوية، لكنهم استسلموا فيما بعد ورضخوا لمطلب الرسول ، وتركوا المنطقة حاملين معهم أموالهم وثرواتهم، باتجاه الشام، وبعضهم إلى خيبر، وكان ذلك في السنة الرابعة للهجرة، وتحدث القرآن الكريم عن هذه الحادثة في سورة الحشر، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [9] .

ثم جاء دور يهود بني قريظة، والذين وقعوا مع المسلمين على صحيفة المدينة للتعايش والدفاع المشترك، لكنهم عملوا على تأليب قريش وغطفان على المسلمين، وتحالفوا معهم للهجوم على المدينة في غزوة الخندق، ولما باءوا بالفشل، اتجه المسلمون لتأديبهم على خيانتهم، ومشاركتهم في مخطط الهجوم على المدينة لإبادة المسلمين، وحاصرهم المسلمون أكثر من عشرين ليلة، ثم استسلموا قبل أن يقتحم المسلمون حصونهم، وجرت عملية تفاوض انتهت إلى تحكيم سعد بن معاذ في أمرهم بموافقة اليهود أيضاً، والذي حكم بإعدام رجالهم الخائنين، وأخذ غنائمهم وسبيهم، في السنة الخامسة للهجرة.

وكانت آخر معركة حاسمة للمسلمين مع الوجود اليهودي المتآمر في الجزيرة العربية هي معركة خيبر، هذه المعركة التي يهتف المسلمون الآن بها في مسيراتهم وهتافاتهم ضد العدوان الصهيوني (خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود).

وخيبر واحة خصبة واسعة، يقيم بها أكثر من عشرين ألف نسمة من اليهود، بينهم عدد من المقاتلين الذين يعتبرون أشجع وأقوى العناصر اليهودية المحاربة، وقد لجأ إليهم فلول يهود بني النضير، فأصبحت خيبر وكراً وبؤرة للتآمر على الإسلام، بما فيها من إمكانات مالية ضخمة، وقدرات حربية وسلاح وعتاد. وكان ليهود خيبر دور أساس في تحريض الأحزاب على مهاجمة المدينة.

وتوجه النبي بجيشه الإسلامي لمحاصرة خيبر، وفيها حصون ثمانية أمنعها حصن مرحب، والذي كان أشجعهم وقد حاول الجيش الإسلامي فتح هذا الحصن عدة مرات لكن ضراوة مقاومة اليهود، ومناعة الحصن، لم تسمح بذلك.

جاء في سيرة ابن هشام: (بعث رسول الله أبا بكر الصديق رضي الله عنه برايته، وكانت بيضاء، فيما قال ابن هشام، إلى بعض حصون خيبر، فقاتل، فرجع ولم يك فتح، وقد جهد، ثم بعث الغد عمر بن الخطاب، فقاتل، ثم رجع ولم يك فتح، وقد جهد، فقال رسول الله :« لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرّار».

قال: يقول سلمة، فدعا رسول علياً رضوان الله عليه، وهو أرمد، فتفل في عينه، ثم قال: «خذ هذه الراية، فامض بها حتى يفتح الله عليك».

قال: يقول سلمة: فخرج والله بها يأنح - أي به نفس شديد من الإعياء في العدو - يهرول هرولة، وإنا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فما رجع حتى فتح الله على يديه.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن الحسن عن بعض أهله عن أبي رافع مولى رسول الله قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين بعثه رسول الله برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من يهود، فطاح ترسه من يده، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر من سبعة معي، أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه)[10] .

وقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: «فأرسلوا إليه». فأُتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن بـه وجع، فأعطاه الراية[11] .



العدوان الصهيوني:


في غفلة من الزمن، وحيث كان المسلمون يغطون في سبات التخلف والانحطاط، عاد خطر اليهود بعد ثلاثة عشر قرناً يهدد الإسلام، ويتحدى المسلمين، فالغرب الاستعماري أراد أن يضرب عصفورين بحجر واحد، فيتخلص من عبء الوجود اليهودي المزعج في دياره، ويشغل بهم العالم العربي والإسلامي، لإعاقة نهضته، ولتبديد قوته وثرواته، فأعطوا اليهود فرصة لتحقيق أحلامهم في بناء كيان خاص بهم، في فلسطين طبقاً لأساطيرهم الدينية، والمسألة تتعدى إيجاد وطن أو كيان لليهود، لأن طبيعتهم العنصرية وعقليتهم الاستعلائية، تدفعهم للهيمنة على من حولهم، فهم يخططون للسيطرة على الشرق الأوسط كله، بل ويصرحون بذلك، على أساس أن التفاعل بين العقل اليهودي، ورأس المال العربي، واليد العاملة المتوفرة في الشرق الأوسط سيتيح إنجاز تقدم حضاري كبير.

وعلى هذا فالكيان الصهيوني لا يمثل مجرد احتلال لقطعة من أعز الأراضي العربية فقط، بل هو تحد سافر لكرامة الأمة، واغتيال لمستقبلها، وتهديد لاستقلالها ومقدراتها.



انتفاضة الأقصى:


لقد استفاد اليهود من غفلة العرب والمسلمين وتشتتهم، واعتمدوا على العون والدعم الاستكباري الغربي، بريطانيا ثم أمريكا وسائر الدول الغربية، وفرضوا وجودهم الغاصب بالقوة، وحينما استيقظ المسلمون، وأحسوا بالمؤامرة الخطيرة التي استهدفتهم، لم يستطيعوا وبالظروف السيئة الداخلية والخارجية التي يعيشونها أن يواجهوا تلك المؤامرة، وخسروا الحروب التي خاضوها ضد العدوان الإسرائيلي.

لكن الجسم العربي والإسلامي بقي رافضاً لهذا الوجود اليهودي الدخيل، ومع نمو الروح الإسلامية تصاعدت حالة الرفض والمقاومة للكيان الصهيوني، وأدرك اليهود ومن خلفهم أن القوة وحدها لا تحمي هذا الكيان من غضب المحيط الإسلامي، ولا تمكن اليهود من تنفيذ مخطط الهيمنة والسيطرة، لذلك رفعوا شعارات السلام الخادعة، وانطلقت مسيرة التسوية في الشرق الأوسط، وهي تستبطن إقناع العرب والمسلمين بتقبل الوجود الصهيوني، وتطبيع العلاقة معه، وإتاحة الفرصة له لتنفيذ مخططاته في الهيمنة على المنطقة، كرأس حربة للاستكبار العالمي.

فكانت كامب ديفيد الأولى، ومؤتمر السلام في مدريد، واتفاقات أوسلو، واستجاب بعض الزعماء لهذا المكر والخداع، وفتحت سفارات وممثليات لليهود في بلاد المسلمين، وصارت وفودهم تجوب العديد من بلدان الإسلام، وهناك من هرول للتطبيع مع إسرائيل، وهناك من بشر بغنائم ومنجزات السلام!!

وتأتي انتفاضة الأقصى اليوم لتكشف الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني، فاليهود لا يتخلون عن طبيعتهم العنصرية، ونفوسهم تنضح بالعداوة والحقد على الإسلام والمسلمين، وما يمارسونه من إرهاب وقمع شنيع للفلسطينيين العزل، هو تذكير للمنخدعين بوحشية اليهود، وعدم التزامهم بأي مواثيق أو عهود.

إنها تضع حداً لخداع السلام، وتقيد المبادرة إلى الشعب الفلسطيني، وتوفر الزخم لجماهير الأمة، لتستعيد حيويتها ودورها الفاعل في ساحة الأحداث.



عصر الكرامة:


لقد دشنت المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان عهداً جديداً للأمة، تستعيد فيه كرامتها وحقوقها المغتَصَبة من قبل الصهاينة الجناة.

فبالسير على خط الإسلام، والتزام قيمه ومبادئه، وبروح المقاومة والجهاد، والاستعداد للتضحية والاستشهاد، تحقق النصر المؤزر في جنوب لبنان، وفرّ اليهود هاربين مذعورين يجرون أذيال الخيبة والهوان، مع كل ما كانوا يمتلكونه من قوة وعتاد، وبعد كل ما فعلوه من قمع وإرهاب.

وانتفاضة الأقصى هي امتداد لتلك المقاومة الباسلة كما هي استمرار لجهاد أبناء فلسطين الذي لم يتوقف.

وأنظار المسلمين شاخصة لهذه الانتفاضة المباركة، لتعيد المعركة إلى مسارها الصحيح، وما تفاعل جماهير الأمة في مختلف الأصقاع والبقاع مع هذه الانتفاضة المجيدة، إلا دليل واضح على عظيم الآمال المعقودة عليها.

إن القصف والقمع الإسرائيلي ليس جديداً على الفلسطينيين والعرب، فتاريخ الكيان الصهيوني هو سجل للمآسي والفظائع وللمذابح والمجازر، فلا بد من الاستمرار في الجهاد والمقاومة لاستئصال هذه الغدة السرطانية، وإلا فستبقى حياة الفلسطينيين والعرب مأساة ومرارة دائمة.

وعلى المسلمين في كل مكان أن يدعموا هذه الانتفاضة، ويقوموا بواجبهم نحوها، فالمعركة لا تخص الفلسطينيين، وأطماع اليهود لا تقف عند حدود فلسطين.

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 16 رجب 1421هـ
[1]  البار: د.محمد علي/ تحريف التوراة ص68 الطبعة الأولى 1998م دار القلم- دمشق الدار الشامية- بيروت.
[2]  الشرق الأوسط/جريدة يومية/لندن 11/5/1996م.
[3]  ظاظا: الدكتور حسن/ أبحاث في الفكر اليهودي ص109-119 الطبعة الأولى 1987م دار القلم- دمشق/ دارة العلوم- بيروت.
[4]  المصدر السابق.ص98-99.
[5]  نهرو: جواهر لال/ لمحات من تاريخ العالم ص315-316 دار الجيل- بيروت 1989م.
[6]  سورة البقرة الآية89-90.
[7]  سورة العنكبوت الآية46.
[8]  سورة البقرة الآية100.
[9]  سورة الحشر الآية2.
[10]  ابن هشام: السيرة النبوية ج3 ص364 دار إحياء التراث العربي- بيروت 1994م.
[11]  البخاري: محمد بن إسماعيل/ صحيح البخاري- كتاب المغازي- حديث رقم 4210.