كيف نقرأ التراث؟

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


كل جيل يأتي فهو جديد على الحياة، لا معرفة له بمعادلاتها، ولا خبرة له بأوضاعها، فيحتاج إلى رؤية ينظر من خلالها للحياة، وإلى مفاهيم تنّظم تفكيره، وإلى منهجية في طريقة العيش، وأنماط السلوك، يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا سورة النحل الآية 78.

ولأن نشأة الجيل الجديد تكون في أحضان الجيل السابق، فمن الطبيعي أن يرث عنه رؤيته ونظرته، وأسلوبه في المعيشة والحياة، كما يأخذ عنه لغة الكلام، وطريقة الحركة، حيث يتربى على ذلك، وتنغرس في نفسه عن طريق المحاكاة والتقمص، ويتمسك بها كجزء من انشداده العاطفي لأسلافه وماضيه.

ثم إن تراث الآباء، هو الخيار الأسهل، والأقرب تناولاً للإنسان، في بحثه عن رؤية للحياة، وطريقة للعيش فيها.

هذا هو تفسير توارث الأجيال للأفكار والمفاهيم والتقاليد السلوكية، والتي قد ينالها التطوير والتغيير بتعاقب الأجيال، لكن مع المحافظة على التوجهات الأساسية.

وقد تحصل طفرة لدى جيل معين، ينقلب على مِلة أسلافه، لانبثاق حركة تمرد ثقافي، نحو الأفضل، كالاستجابة لدعوات الأنبياء، أو نحو الأسوأ، كحالات الارتداد والانحراف عن منهج الله تعالى..

مفهوم التراث

التراث لغة لفظ مرادف لـ(الإرث) و (الوِرث) و(الميراث)، وكلها من مادة (و.ر.ث)، وهي تطلق على ما يخلفه الإنسان لورثته من مال أو حسب.

فما يتركه السابق للاحق من مكاسب مادية أو معنوية يسمى تراثاً.

وقد استخدم القرآن الكريم مشتقات مادة (و.ر.ث) للدلالة على انتقال الثروات المادية، والثروات المعنوية الفكرية.

فمن النوع الأول قوله تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا سورة الفجر الآية 19. أي تأكلون حصص شركائكم الضعفاء من الميراث، وتجمعونها وتلمونها إلى حصتكم، وقوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ سورة النساء الآية 11.

ومن إطلاق الإرث على الموروث الروحي والثقافي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا سورة فاطر الآية 32. والكتاب هو الرسالة الإلهية. ومثله قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ سورة غافر الآية 53. وجاء هذا الاستخدام في آيات أخرى من القرآن الكريم.

كما ورد في أحاديث الرسول إطلاق الإرث على التقاليد المتوارثة: فقد بعث ابن مربع الأنصاري إلى أهل عرفة ليقول لهم: «اثبتوا على مشاعركم هذه، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم»[1]  إشارة إلى أن مناسك الحج وشعائره هي من تراث نبي الله إبراهيم الموحى إليه من قبل الله تعالى.

ومن أقوال الإمام علي : «العلم وراثة كريمة»، «ولا ميراث كالأدب».

من هذه النصوص وأمثالها يظهر استخدام مشتقات مادة (و.ر.ث) في معنى الموروث المعنوي والثقافي، وليس فقط الموروث المادي. بل إن بعض النصوص تؤكد على إرادة الموروث الثقافي في استخدامها لمادة (و.ر.ث)، وتنفي إرادة وراثة المال كالحديث الوارد عن رسول الله والذي نقلته مختلف المصادر، كسنن أبي داود، وسنن ابن ماجة، وسنن الدارمي، وسنن الترمذي، وبحار الأنوار، وغيرها، عن أبي الدرداء عنه : «إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»[2] . لذلك نستغرب ما ذكره الدكتور محمد عابد الجابري من النفي الجازم لهذا الاستخدام في الخطاب العربي القديم، حيث قال: ((ويمكن أن نلاحظ بالإضافة إلى ما تقدم أنه لا كلمة (تراث) ولا كلمة (ميراث) ولا أيّاً من المشتقات من مادة (و.ر.ث) قد استعمل قديماً في معنى الموروث الثقافي والفكري ـ حسب ما نعلم ـ وهو المعنى الذي يعطى لكلمة (تراث) في خطابنا المعاصر. إن الموضوع الذي تُحيل إليه هذه المادة ومشتقاتها في الخطاب العربي القديم كان دائماً: المال، وبدرجة أقل: الحسب. أما شؤون الفكر والثقافة فقد كانت غائبة تماماً عن المجال التداولي، أو الحقل الدلالي، لكلمة (تراث) ومرادفاتها))[3] .

الأمة والتراث

إن تراث أي أمة هو موروثها الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني الذي تتناقله وتتوارثه أجيالها.

وتتفاوت الأمم في حجم مخزونها التراثي، تبعاً لتفاوت مستويات حضاراتها، فالحضارة الأقوى تنتج تراثاً أكبر وأرقى، لذلك نجد الموروث الثقافي لبعض الأمم محدوداً بسيطاً، بينما يكون واسعاً ثرياً لدى أمم أخرى.

كما أن درجة التمسك والتعلق بالتراث تختلف من أمة إلى أخرى، ومن جيل إلى آخر، بفعل عوامل وأسباب مختلفة.

والأمة الإسلامية من أكثر أمم الأرض اهتماماً وتعلقاً بتراثها، لما له من صفة وصبغة دينية، تجعله موضع القداسة والتعبّد، وهو تراث واسع شامل يغطي مختلف مجالات الفكر والسلوك، لطبيعة شمولية الرسالة الإسلامية، ومعالجتها لكافة جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، المادية والروحية.

كما أن مستوى التقدم والرقي الذي حققته الحضارة الإسلامية في عهود سابقة، أنتج زخماً كبيراً من التجارب والخبرات، وثروة هائلة من المعارف والثقافات.

وقد يكون من أسباب تعلق الأمة بتراثها الإسلامي، إضافة إلى ما سبق، ما واجهته الأمة في هذه العصور المتأخرة، من نكبات وصدمات، رأت فيها تهديداً لوجودها وهويتها، وخاصة تلك المحاولات والمخططات التي تستهدف تراث الأمة، وانتمائها الديني أن، لإصابتها بالهزيمة النفسية، وتجريدها من منابع قوتها وصمودها، وإلغاء وحدتها، باعتبار أن تراثها الديني هو محور تلك الوحدة والارتباط بين مجتمعاتها وشعوبها المتعددة الأعراق والقوميات والبقاع.

في مواجهة هذه الأخطار والتهديدات، وكرد فعل لها، ازداد تمسك الأمة بتراثها، واحتمائها بدينها، كحصن للحفاظ على الهوية، وملجأ للدفاع عن الذات.

وفشلت محاولات فصل الأمة عن تراثها، مع ما توفر لتلك المحاولات من إمكانات هائلة، وقدرات ضخمة، حيث تطابقت أطماع قوى دولية خارجية، مع توجهات قوى مغرضة داخلية، وصل بعضها إلى مواقع السلطة والحكم بدعم خارجي، لتنفيذ مخططات طمس هوية الأمة وقطعها عن تراثها. وقد بلغ الأمر ببعض تلك القوى المتسلطة أن تتدخل حتى في الحريات الشخصية، فتمنع النساء المسلمات من ارتداء الحجاب، وتعاقب المواطن المسلم على أداء فريضة الصلاة.

وفي هذا الأسبوع نشرت صحيفة الحياة في ملحقها الأسبوعي (الوسط)، تقريراً عن الإجراءات التي تتخذها قيادة الجيش التركي بحق من يلاحظ عليه أداء الصلاة، أو التزام زوجته بالحجاب، من جنود وضباط الجيش. ومما جاء فيه:

منذ العام 1996م جرى طرد أكثر من 1350 ضابطاً وضابط صف من الجيش التركي، فإذا أضفنا إليهم أولئك الذين طردوا من الجيش خلال سنوات دراستهم، في الكليات العسكرية، والآخرين الذين فضلوا التقاعد من الجيش باكراً، فإن العدد سيصبح ما بين 3500 و 4000 ضابط. ولكن ما هو الخطأ الذي ارتكبه كل هؤلاء؟

((السلوك غير المنضبط)) الحقيقة إن ما يتهمون به إنما هو الصلاة في المساجد، لاسيما أن زوجاتهم متهمات بارتداء الحجاب، والقرار الذي يتخذه المجلس العسكري الأعلى في هذا الشأن مبرم عادة.

ونقل التقرير عن أحد الضباط المطرودين بعد 22 سنة من الخدمة في الجيش، (عبدالواحد قولجي) قوله: ذات يوم قال لي قائدي: عليك أن تطلب من زوجتك رفع حجابها، وإلا فإنك ستطرد من الجيش. فأجبته: بأن الحجاب جزء من ديني، فإذا كنتُ مؤمناً عليَّ أن احترم قواعد الدين. وبعد بضعة شهور، طردت من الجيش قبل موعد تقاعدي بخمس سنوات، وخسرت كل شيء، عملي، ومرتبي، وضماني الاجتماعي.

وفي قصة مشابهة يقول ضابط آخر (مصطفى ايرول): كان من عادتي أن أذهب للصلاة في قاعة المصلى في الثكنة مع 3 أو 4 جنود بسطاء، وكان من سوء حظي، ذات يوم، أن الضابط المسؤول عن المراقبة، زار المصلى، ورآني وأنا أؤدي الصلاة، فسألني لماذا تصلي؟ هل تصوم رمضان أيضاً؟.. وتم نقله إلى منطقة نائية عقوبة ثم انتهى الأمر إلى طرده[4] .

وتحصل مثل هذه الأمور في أكثر من بلد إسلامي، لكن نتائجها في الغالب عكسية، حيث يزداد إصرار الأمة على دينها وتراثها، وأوضح دليل على ذلك هذه الصحوة الإسلامية الواسعة في أوساط مختلف شعوب الأمة ومجتمعاتها.

مراجعة التراث

إن حرص الأمة على تراثها، واحترامها لتاريخها وأسلافها، لا ينبغي أن يؤدي إلى حالة من الأسر والانبهار، والتوقف والجمود، فذلك يعني الخروج من معادلة التاريخ، وانتهاء الدور الحضاري، والقبول بالتخلف عن مسيرة الحياة.

فتراث الأمة في مجمله عدا النصوص الشرعية الثابتة، يعبّر عن جهد بشري، في الفكر والممارسة، بذلته الأجيال السالفة، وهو محصلة خبراتها وتجاربها.

ولا يمكن ادعاء العصمة والكمال لأي جهد بشري، باستثناء ما صدر عن وحي إلهي، وتسديد خاص (عصمة)، لذلك من الطبيعي أن يحتوي التراث على نقاط الضعف والقوة، والغث والسمين، والخطأ والصواب، كما أن تناقل التراث عبر مسيرة زمنية، تجعله معرضاً للشوائب والتحريفات.

وليس كل ما في التراث وإن كان صحيحاً قابلاً للتمثل والمحاكاة في كل عصر، ذلك أن اختلاف العصور والظروف قد ينشئ اختلافاً في المفاهيم والقيم، وفي المعايير والمقاييس وترتيب الأولويات. بل تحدث الفقهاء عن تأثير الزمان والمكان في تحديد الأحكام الشرعية للموضوعات.

ثم إن تطور الحياة، يفرض أسئلة جديدة، وتحديات معاصرة، تستلزم القيام بدور الإضافة إلى التراث، والإسهام في تجديده وتطويره.

كل هذه الأمور تفرض النظر إلى التراث والتعامل معه بعقل مفتوح، ووعي معاصر، وحينما نجد القرآن الكريم ينعى على المجتمعات الأخرى، تجميدها لعقولها، واتباعها لطريقة أسلافها، دون تأمل وتفكير، فإن ذلك يعني التأسيس لمنهجية التعامل الواعي مع تراث الأسلاف، بإعمال العقل، واستخدام المقاييس الصحيحة، لتمحيص التراث، وأخذ الصواب واجتناب الخطأ، وليس الانبهار والاستسلام والوقوع في أسر التراث.

يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ!قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ سورة الزخرف الآية 23-24.

إن دراسة نهج السلف قد يكشف للجيل خطأ نهج السابقين وضلاله، وقد يكشف وجود ما هو أصوب وأهدى منه، والمطلوب ليس فقط تجنب الضلال والخطأ، وإنما البحث عن الأفضل والأحسن، حتى في دائرة الصواب. فقد يكون ما سلكه السابقون أنسب لعصرهم وظرفهم، وعلى كل جيل أن يتأكد مما هو أهدى وأصلح لحاضره. هذا ما يمكن استيحاؤه من قوله تعالى:﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ.

وإذا كنا مطمئنين كمسلمين للنهج العام لأسلافنا على طريق الإسلام، فإن ذلك لا يعفينا من لزوم النظر والبحث في تفاصيل هذا النهج وتطبيقاته، والاستجابة لتحديات العصر الذي نعيشه.

وفي إطار الدين فإن علمنا بما عرض للفكر والتشريع الإسلامي، من محاولات تحريف وتشويه، من قبل الثقافات الدخيلة، والجهات المغرضة في صفوف الأمة، يفرض علينا أن نجتهد في التمحيص والتدقيق لتجاوز آثار تلك المحاولات. حتى لا ننسب إلى الدين ما ليس منه فنكون مشمولين بوعيد الله تعالى حيث يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ سورة الصف الآية 7. ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ سورة النحل الآية 116.

ثم إن أسلافنا قد اجتهدوا في فهم الدين حسب طاقتهم، ومستوى معارف عصرهم، وليس هناك ما يلزمنا بحدود فهمهم واجتهادهم، إننا ملزمون بالنص الديني الثابت، أما تفسير السابقين وفهمهم للنص فليس جزءاً من الدين، بل هو معرفة بشرية، يمكن المناقشة فيها، وقبولها أو رفضها، على أساس البحث العلمي.

وهذا هو منطلق القول بوجوب الاجتهاد وجوباً كفائياً على الأمة، بأن تكون هناك حركة اجتهادية في كل عصر وجيل. يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين:

((حاجة الأمة إلى الاجتهاد والمجتهدين، فلا ريب في أن تحصيل الاجتهاد واجب شرعاً وجوباً نفسياً تعينياً كفائياً على كل مسلم قادر عليه، ولا يسقط هذا الوجوب عن الأمة، إلا إذا وجد من المجتهدين ما تتحقق به الكفاية، فلا يحد بعدد مخصوص.

وهذا الحكم بالوجوب ينبغي أن يكون من ضروريات الإسلام، لأن طبيعة العقيدة والشريعة، وبمقتضى أصل وضعهما من قبل الشارع المقدس تعالى شأنه، تقتضيان الاستمرار والدوام المتوقفين على استمرار حركة الاجتهاد في الأمة المسلمة، لإظهار أحكام الله تعالى، التي تصوغ حياة البشر وتوجهها في تطورها وتقلباتها، ولحفظ الإسلام من الجمود على خصوص الأحكام التي اقتضتها طبيعة حياة المجتمع، في عصر الرسالة، والإمامة المعصومة الظاهرة، حيث إن هذا الجمود يؤدي إلى النسيان والاضمحلال بتعاقب الأزمان.

وقد دلت على هذا الوجوب من الكتاب العزيز آية النفر، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ سورة التوبة الآية 122.

فقد دلت على وجوب التفقه لأجل تبليغ أحكام الشريعة. ودلت على أن هذا الوجوب ثابت على الأمة بنحو الكفاية، يجب أن تقوم به (طائفة من كل فرقة) فهو واجب على الأمة الإسلامية مع ملاحظة انقسامها إلى فرق، وينبسط هذا الوجوب على فرق الأمة، بنحو الكفاية على كل فرقة، ويتحقق الامتثال بقيام طائفة من كل فرقة بالنفر والتفقه.

ومما ذكرنا لا يبعد استفادة عدم كفاية وجود مجتهدين في شعب من الشعوب الإسلامية، لسقوط وجوب التفقه عن سائر الشعوب الإسلامية، بل يجب على كل شعب (فرقة) مسلم، أن يكون منه نافرون متفقهون (مجتهدون) لأن الأمر في الآية الكريمة وارد بنحو العموم الاستغراقي (كل فرقة) فلا يتحقق الامتثال بنفر طائفة من فرقة واحدة أو أكثر، إذا لم ينفر طوائف من جميع الفرق))[5] .

التراث وواقع الأمة

سوء الواقع الذي تعيشه الأمة حقيقة ثابتة لا يمكن النقاش فيها، فالأمة التي كانت رائدة الحضارة والتقدم، وكانت خير الأمم في سالف الزمن، أصبحت الآن في وضع يُرثى له. حيث تعيش تخلفاً شاملاً، وتصنّف كل دولها ضمن قائمة دول العالم الثالث.

إنها تفتقد الاستقرار السياسي، لغياب الديمقراطية في معظم مجتمعاتها، وتعيش على هامش الحضارة لانعدام مشاركتها في ميادين العلم والتكنولوجيا، وتعاني من التمزق والخلافات الداخلية، لافتقادها السياسات العادلة، وضعف لغة الحوار.

لقد تضاءلت مكانة الأمة عالمياً، ووصلت سمعتها إلى الحضيض، خاصة في هذه السنوات الأخيرة، حيث شُوهت صورتها، وأُلصقت تهمة الإرهاب والتطرف بدينها وأبنائها، واتخذت مختلف دول العالم إجراءات التحفظ، تجاه مؤسساتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية. وأصبح اسم المسلم وشكله مثيراً لعلامات الاستفهام في أكثر من بلد.

والسؤال الذي يفرض نفسه: هل للتراث دخل في صنع هذا الواقع الذي تعيشه الأمة؟

إن قسماً من الناس لا يرون داع لمثل هذا السؤال، ذلك أنهم يعتقدون ببراءة الأمة وظلامتها، فهناك عدوان وتآمر خارجي، أوصل الأمة إلى
هذا الواقع المرير، في الوقت الذي تستحق فيه واقعاً أفضل، لعظمتها وأحقية دينها.

وخلاص الأمة ـ وفق هذه النظرة ـ هو في إشهار سلاح المقاومة، وسيوف الجهاد، ضد الغزاة المعتدين، والكفار المتآمرين.

أما حسب منطق القرآن ورؤيته، فإن انحدار مستوى الأمم، وسقوط المجتمعات، علته الأساس فساد الداخل وضعفه، واتساع رقعة ثغراته، وهو ما يتيح الفرص لنجاح التآمر والعدوان الخارجي، يقول الله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ!ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ سورة الأنفال الآية 52-53. ويقول تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ سورة الشورى الآية 30.

وهنا يكمن التساؤل عن علاقة التراث بواقع الأمة، فالأمة تعلن انحيازها لتراثها، وتظهر التزامها بشعاراته وشعائره، مما يعطي للتراث حضوراً ودوراً في صنع الواقع المعاش.

إننا لا نستطيع أن نتهم وندين كل تراثنا، فهو يشتمل على قيم الدين ومبادئه التي نؤمن بصحتها وصوابها، لكننا نستطيع افتراض الخطأ في طريقة تعاملنا مع التراث، ومنهجيتنا في الاختيار والانتقاء منه.

لقد تورطنا في الأخذ بجوانب سلبية من التراث، وقدسنا ممارسات خاطئة لبعض الأسلاف، ووقعنا في فوضى تراثية اختلط فيها علينا الحابل بالنابل، فاخترنا من التراث ما يبرر لنا واقعنا، وما يحقق في أنفسنا الرضا عن أوضاعنا المتخلفة.

ذلك أن تراثنا في جانب معارفه البشرية، وتجاربه العملية، نتاج لمدارس ومذاهب وتيارات متعددة، وكان للسلطات الزمنية والقوى النافذة، دور مؤثر في توجهات قسم كبير من هذا التراث، حيث خضع لها كثير من الفقهاء، وتملق لها أكثر الأدباء، وألتف حولها معظم الكتاب والمؤرخين. مما أفسح المجال لاتساع رقعة ثقافة الاستبداد في تراثنا، لتزاحم مبادئ الحرية والعدل والكرامة، التي جاء بها الدين، وتبتدع الحيل الشرعية والمخارج الفقهية للالتفاف على تلك المبادئ والقيم.

وكما في تراثنا ما يدفع إلى الانطلاق والإبداع، ويدعو إلى اكتشاف آفاق الطبيعة والكون، واعمار الحياة، فإن فيه ما يشجع على الكسل والعزلة والانطواء، وإهمال أمور الدنيا، بحجة إننا لم نخلق لها وإنما خلقنا للآخرة، فلا تستحق الحياة أن ننشغل بالتفكير في تطويرها، فلنتركها للكافرين الذين لا آخرة لهم، ولنتوجه للعبادة طمعاً في الجنة.

إننا مطالبون بغربلة التراث، وحسن الانتقاء والاختيار منه، وتجاوز الحرفية في فهم النصوص وتفسيرها، والخروج من أسر التقديس المطلق لكل التراث ولجميع السلف. والذي يفقدنا القدرة على التقويم الموضوعي، والتعامل السليم.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار
.

[1] ابن ماجة: محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجة، ج2 ص1002، حديث رقم 3011، دار الفكر ـ بيروت.

[2] المصدر السابق، ج1 ص81، حديث رقم 223.

[3] الجابري: محمد عابد، التراث والحداثة ص22، الطبعة الأولى 1991م، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت.

[4] الحياة الأسبوعية، الوسط، لندن، عدد 610، بتاريخ 6 تشرين الأول 2003م.

[5] شمس الدين: محمد مهدي، الاجتهاد والتقليد ص90، الطبعة الأولى 1998م، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت.