الإسلاميون وحقوق الإنسان

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


لا يمكن لأي باحث منصف في النصوص والتشريعات الإسلامية، أن ينكر الاهتمام المميز بقضايا حقوق الإنسان في الفكر والتشريع الإسلامي، مما يجعله الأعمق والأسبق اهتماماً بهذا الموضوع من كل الأديان والمدارس الأخرى، بما فيها الحضارة الغربية الحديثة.

لقد أكدت آيات القرآن الكريم، قبل انبثاق مواثيق حقوق الإنسان في أوربا بعشرة قرون على كرامة الإنسان، وحفظ حقوقه المادية والمعنوية بكل تفاصيلها وجزئياتها، واعتبرت أن أي انتهاك لشيء من هذه الحقوق يشكل عدواناً ومناوءة لله تعالى ولدينه ورسله، تستوجب غضب الله تعالى وسخطه وعقوبته ونكاله.

فالاعتداء على حياة فرد واحد من البشر يعتبره القرآن الكريم عدواناً على البشرية جمعاء، وإبادة لها، يقول تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً(المائدة، 32).

والكرامة حق إلهي منحه الله تعالى للإنسان من حيث هو إنسان، وبغض النظر عن أي صفة أخرى، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ(الإسراء، 70).

ويؤكد القرآن الكريم حرية الإنسان في آرائه ومعتقداته ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(الكهف، 29).

وحتى أنبياء الله تعالى لا يحق لهم ممارسة أي ضغط، أو إكراه على حرية المعتقد والرأي، ويقتصر دورهم على الدعوة والتبليغ فقط، يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ % لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(الغاشية، 21-22)، ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(يونس، 99).

وفي مجال حماية الحقوق المادية، يتوعد القرآن الكريم من يسلب شيئاً من أموال الآخرين ـ كاليتامى مثلاً ـ بأشد العذاب، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(النساء، 10).

وعن حماية الحقوق المعنوية، يقول تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً(الحجرات، 12).

وفي السنة النبوية مئات النصوص والأحاديث التي اقتبس منها الفقهاء تشريعات الإسلام في حفظ حقوق الإنسان المادية والمعنوية، كأحكام القصاص والديات، والوظائف الاجتماعية، ومناهج الأخلاق والآداب.

واستيعاب الحديث عن حقوق الإنسان في النصوص والتشريعات الإسلامية يحتاج إلى بحوث مفصلة، لكن ما أريد مناقشته هو دور الإسلاميين في تبني قضايا حقوق الإنسان والدفاع عنها.

واقع الاهتمام بحقوق الإنسان


هناك كثير من المباهاة والاعتزاز لدى الإسلاميين أمام الحضارة الغربية بأسبقية الإسلام وأفضلية اهتمامه بحقوق الإنسان. وهو أمر صحيح على مستوى النصوص والتعاليم والأحكام. أما على صعيد الممارسة والواقع فيجب الاعتراف بالقصور والتقصير، وأن الآخرين سبقونا وتقدموا علينا بمسافات بعيدة.

ويمكن رصد بعض مواقع تخلفنا ـ كمسلمين ـ في مجال حقوق الإنسان ضمن المحاور التالية:

1/ التأخر في البلورة والصياغة التقنينية لقضايا حقوق الإنسان، ذلك أن النصوص الدينية غالباً ما تكون عامة مطلقة، تحتمل مختلف التفاسير، وتتفاوت حول تفاصيل تطبيقاتها آراء العلماء، وحتى التشريعات والأحكام الفقهية المرتبطة بحقوق الإنسان، غالباً ما تكون صياغتها من قبل الفقهاء على شكل فتاوى لتبيين الحكم الشرعي للفرد المسلم.

والخطوة المتقدمة التي حصلت في المجتمعات الغربية هي الصياغة التقنينية الواضحة لحقوق الإنسان على شكل وثائق وقوانين ومعاهدات، تأخذ صفة الإعلان الملزم على المستوى المحلي أو العالمي.

فعند انبثاق الثورة الفرنسية أصدرت الجمعية الوطني الفرنسية بتاريخ 26 آب/أغسطس سنة 1789م إعلان حقوق الإنسان والمواطن في سبع عشرة مادة تضمنت مبادئ في الحقوق والحريات، وعندما صدر الدستور الفرنسي سنة 1791م كان هذا الإعلان ديباجة له وجزءاً منه، وفي دستور 1793م الذي أقره المؤتمر الوطني (الكونفنسيون) أضيفت مواد أخرى لإعلان حقوق الإنسان والمواطن تتعلق بالمجال الاقتصادي والاجتماعي، وأصبح ذا خمس وثلاثين مادة من أصل 124 مادة هي كل الدستور.

وبعد إنشاء الأمم المتحدة أقرت جمعيتها العامة في 10 كانون الأول/ديسمبر سنة 1948م (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) ويقع في ثلاثين مادة، ثم أُلحقت به اتفاقيتان، الأولى بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والثانية بشأن الحقوق المدنية والسياسية مع برتوكول اختياري بشأن الاتفاقية الثانية، وذلك بتاريخ: 16 كانون الأول / ديسمبر 1966م.

على الصعيد الإسلامي، ومع وجود تحفظات على بعض النقاط الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقد بدأت فكرة إصدار إعلان إسلامي لحقوق الإنسان سنة 1979م من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم الدول الإسلامية، حيث قرر المؤتمر الإسلامي العاشر لوزراء الخارجية تشكيل لجنة مشاورة من المتخصصين لإعداد لائحة بحقوق الإنسان في الإسلام، وقد أحيلت على المؤتمر الحادي عشر، والذي قام بدوره بإحالتها على لجنة قانونية، وعرض النص المعدّل على مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، ولكنه أحاله على لجنة أخرى، ووافق المؤتمر الرابع عشر لوزراء الخارجية في (دكّا) على المقدمة وأول مادة فيه، وأحال باقي المواد على لجنة ثالثة، ثم تتابعت المؤتمرات مؤكدة عليها، إلى أن عقد اجتماع طهران في ديسمبر 1989م وأعدَّ الصيغة النهائية والتي تمت الموافقة عليها نهائياً في المؤتمر التاسع عشر لوزراء الخارجية في القاهرة، وهكذا تكون اللائحة قد مرّت بمجملها في عشرة مؤتمرات للخارجية: (فاس، إسلام آباد، بغداد، نيامي، دكّا، صنعاء، عمان، الرياض، طهران، القاهرة) وثلاثة مؤتمرات للقمة في (الطائف، الدار البيضاء، الكويت) ومجموعة من جلسات الخبراء، واستغرقت هذه الولادة العسيرة للإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان عشر سنوات، أما التزام الدول الإسلامية عملياً بهذا الإعلان فقد يحتاج إلى عشرات أخرى من السنوات!!

2/ ضعف الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان في الخطاب الإسلامي: فبينما نجد اهتماماً كبيراً بالقضايا العقدية والعبادية، وحتى الشأن السياسي أخذ حيزاً من الاهتمام في الخطاب الإسلامي المعاصر، لكن قضية حقوق الإنسان لم تنل مستوى من الطرح والاهتمام إلا بشكل محدود، غالباً ما تكون من منطلق الدفاع عن الإسلام أمام من يتهمه بتجاهل حقوق الإنسان، وللتباهي بموقعية حقوق الإنسان في التراث الإسلامي، أو تكون في سياق عرض الظلامات التي يتعرض لها المسلمون والإسلاميون بالاحتكام إلى مواثيق حقوق الإنسان.

3/ محدودية التصدي للدفاع عن حقوق الإنسان من قبل الإسلاميين: فقد تأسست جمعيات ولجان كثيرة على المستويين العالمي والمحلي، لكن أغلب المتصدين لإنشائها والمتطوعين للعمل فيها هم من غير الإسلاميين، ولم تبادر الجهات الإسلامية إلى تبني الدفاع عن حقوق الإنسان إلا في السنوات الأخيرة لمواجهة ما أصاب المنتمين إليها من ضغوط ومضايقات تعسفية. وغالباً ما تهتم أي جهة بانتهاكات حقوق الإنسان التي تحصل لأتباعها، أو للشريحة التي تنتمي إليها. ولا شأن لها بما يحصل للآخرين.

4/ واقع الانتهاك لحقوق الإنسان، حيث تفرد مختلف التقارير الدولية مساحة واسعة لكثير من بلدان العالم الإسلامي، لرصد انتهاكات حقوق الإنسان فيها، على مختلف المستويات.

ولا يقتصر التجاوز لحقوق الإنسان في كثير من بلدان العالم الإسلامي على الجهات الحكومية الرسمية، بل إن بعض ألوان العلاقات السائدة في المجتمع تتضمن حيفاً وتجاوزاً لحقوق الإنسان، في العلاقات الأسرية، وفي التعامل بين الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة الانتماء.

لماذا التغاضي عن حقوق الإنسان؟


المسافة البعيدة الفاصلة بين عظيم اهتمام الإسلام فكراً وتشريعاً بحقوق الإنسان، وبين ضعف اهتمام المسلمين وخاصة الإسلاميون منهم بقضاياها، تطرح تساؤلاً ملحاً عن الأسباب والعوامل الكامنة خلف هذا التباين.

ويأتي في طليعة تلك العوامل ـ كما يبدو لي ـ العامل الثقافي المعرفي، حيث ركزت الثقافة الدينية المتوارثة على محورية الدفاع عن حقوق الله تعالى على عباده في الجانب العقدي والعبادي، فاهتم علماء المسلمين ودعاتهم بتبيين العقائد الدينية، والفرائض العبادية فيما يرتبط بالعلاقة بين العبد وربه، وفيما ينقذه وينفعه في آخرته، أما حقوق الناس فيما بينهم وسبب نجاحهم في تنظيم حياتهم الدنيوية فلم تنل حظها من الاهتمام والتركيز.

من ناحية أخرى فإن بعض المفاهيم الأخلاقية، والتعاليم الدينية، حصل التباس في فهمها، وتشخيص موارد تطبيقها، فخلقت نوعاً من العزوف والتساهل في أذهان المتدينين تجاه المطالبة بالحقوق والدفاع عنها.

ومنها مفهوم الصبر، والذي هو في الأصل يعني الثبات والاستقامة أمام التحديات، لكنه أصبح يعني الاستسلام والخنوع، ومنها مفهوم الزهد وهو في الأصل التسامي على الأهواء والشهوات التزاماً بالمبادئ والقيم، فأصبح يعني اللامبالاة تجاه شؤون الحياة.

ويأتي في هذا السياق فهم بعض الأحاديث في التعامل مع الحاكمين، والتي يدل الصحيح منها على الحذر من انفلات النظام ووقوع الفتن، فأصبحت تعني القبول بكل التصرفات الصادرة عن الحاكم وإن كانت جائرة مخالفة للشرع.

لقد تم إغفال النصوص والمفاهيم الدينية التي تربي الإنسان المسلم على التمسك بحريته وكرامته وحقوقه، وتشجعه على الدفاع عنها، وعدم القبول بالظلم والعدوان والانتهاك لشيء من حقوقه المادية أو المعنوية.

إن الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ(البقرة، 194)، ويصف المؤمنين بأنهم يجاهدون لاستعادة حقوقهم، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(الشورى، 39).

وورد عن الإمام علي: «ما ضاع حق خلفه مطالب».

وفي دعاء مكارم الأخلاق الوارد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين جاءت الفقرات التالية: ((واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني)).

ونقل النووي في شرحه لصحيح مسلم عن أبي علي الدقاق قوله: ((من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس)).

فلا بد من الطرح المتوازن للمفاهيم، حتى لا يقع الالتباس والخلل في المعرفة والسلوك.

وهناك عامل سياسي يتعلق بتحاشي العلماء والمفكرين الاصطدام مع السلطات والحكومات في التاريخ الإسلامي، كحكومات الأمويين والعباسيين، وأشباههم الذين مارسوا الاستبداد السياسي، وانتهكوا كثيراً من حقوق الإنسان، مما يجعل الحديث حول تلك الحقوق بمثابة اعتراض على تلك السلطات، أو تحريض للجمهور على ممارستها.

وقد رصد أحد الباحثين المعاصرين بعض ما طفحت به سجلات التاريخ الإسلامي من انتهاكات حقوق الإنسان، فتكونت موسوعة ضخمة تحت عنوان (موسوعة العذاب) طبعت في سبعة مجلدات، تصل إلى حوالي 3000 صفحة. وفيها من ألوان الانتهاكات والتعدي على الحرمات والحقوق ما يندي له الجبين، ويوجب الدهشة والذهول.[1] 

وحتى بعد زوال تلك الحكومات، ابتليت الأمة بمرض التمجيد للتاريخ، والتقديس للأسلاف، فأصبح النقد لأولئك الحاكمين وسياساتهم مرفوضاً عند البعض، تحت شعار ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(البقرة، 134).

صحيح أن الاستغراق في مشاكل التاريخ غير مجد، ومضر إذا ما استغل لتعميق الخلافات والانقسامات في الأمة، لكن إضفاء هالة التمجيد والتقديس تحرم الأمة من أخذ الدروس والعبر، وقد تمنح الشرعية والمقبولية لتلك الممارسات الإجرامية.

وثمة عامل اجتماعي يتمثل في قوة الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع والتي ضعف العلماء والإسلاميون عن مواجهة ما فيها من انتهاكات لحقوق الإنسان، وسكتوا عن تبيين رأي الشرع مراعاة للواقع الاجتماعي. كما هو الحال في بعض صور التعامل المسيء مع الزوجة والمرأة بشكل عام، وكذلك القسوة في التعامل مع الأولاد والتلاميذ والخدم.

ومن العوامل المستجدة التي سببت عزوف الإسلاميين عن الاهتمام بقضية حقوق الإنسان،الخلل في مصداقية طرح الدول الغربية لحقوق الإنسان، إضافة إلى بعض التحفظات على بعض موادّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لمخالفتها لأحكام شرعية منصوصة، كحرية الارتداد عن الدين، والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في مثل الإرث وحق الطلاق..

فمن الواضح أن بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية هي المثال الأبرز، تمارس الازدواجية وتستغل شعارات حقوق الإنسان لخدمة مصالحها وأغراضها، فتغض الطرف عن أبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان من قبل الأنظمة الحليفة لها، بينما تملأ الدنيا ضجيجاً ضد المتمردين على هيمنتها. وما السكوت على الاحتلال الإسرائيلي وممارساته الإجرامية المستمرة تجاه الشعب الفلسطيني، بل دعمه والدفاع عنه إلا دليل سافر على خلل المصداقية، وسوء الاستغلال لقضية حقوق الإنسان.

وكرد فعل على هذه السياسات أخذت بعض الجهات الإسلامية تنظر بشك وريبة لطرح موضوع حقوق الإنسان، وكأنه ورقة مشبوهة، وكلمة حق يراد بها باطل.

نحو اهتمام أكبر بحقوق الإنسان


مهما كانت وجاهة بعض هذه المبررات، وحجم بعض تلك العوامل والأسباب، إلا أنه لا يصح أن تحجبنا عن حقيقتين عظيمتين:

الأولى: موقعية حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، والتأكيد الخطير على رعايتها وحمايتها، فلم تحذر النصوص الدينية من شيء كتحذيرها من جريمة الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، كما أن إقامة العدل بين الناس هو الهدف الأساس للشرائع الإلهية ولابتعاث الأنبياء، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ(الحديد، 25).

مما يعني أن التساهل تجاه هذه القضية يعني إضاعة هدف أساس للدين، والتنكر لأهم شرائعه ومقاصده.

الثانية: الارتباط العميق بين رعاية حقوق الإنسان ومستوى التقدم الحضاري في الأمة، حيث لا يمكن لأمة أن تتقدم، وأن تحقق الاستقرار والتنمية، وخاصة في هذا العصر، إذا لم توّفر الكرامة لأبنائها، فالإنسان المقهور المسحوق لا ينجز تقدما حقيقياً، ولا ينتج عطاءً، كما أن عالم اليوم لن يحترم أمة تتجاهل حقوق الإنسان.

وعلينا أن نعترف بمدى التخلف الذي تعيشه الكثير من المجتمعات الإسلامية على صعيد رعاية حقوق الإنسان. فما تتناقله التقارير الصادرة عن المؤسسات المعنية بهذا الشأن عن الواقع السيئ لحقوق الإنسان في بلاد المسلمين ليس كله حملات مغرضة، وإن كان هنالك غرض في توظيفه من قبل بعض الجهات، لكن ما يحصل من انتهاكات قد يكون أكثر مما تستعرض تلك التقارير.

هاتان الحقيقتان تفرض على الإسلاميين الواعيين أن يبدو الاهتمام اللازم بقضية حقوق الإنسان، وأن يتصدوا للدفاع عنها، بنشر رؤية الإسلام وثقافته الحقوقية، عبر مناهج التدريس، ووسائل الإعلام والتخاطب مع الجمهور، وبتشكيل المؤسسات والجمعيات التي تتبنى قضايا حقوق الإنسان، وممارسة مختلف الوسائل والأساليب المشروعة.

الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان


إنشاء الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية يمثل خطوة استجابة لهذا التحدي الكبير، حيث بادرت نخبة واعية من أبناء هذا الوطن الغالي لتشكيل هذه الجمعية من أجل العمل على حماية حقوق الإنسان، والوقوف ضد الظلم والتعسف والعنف والتعذيب وعدم التسامح، وللتعاون مع المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، حسب ما ورد في النظام الأساسي للجمعية.

إن تأخر هذه الخطوة زمنياً، أو وجود ملاحظات لدى البعض على طريقة إنشائها، لا ينبغي أن يمنع من مباركتها وتشجيعها والتعاون معها لتحقيق الأهداف النبيلة.

فهي تجربة رائدة نتطلع إلى نموها وتطويرها، لتساعد على تلافي القصور والتقصير الذي تعاني منه الساحة الإسلامية في مجال الاهتمام بحقوق الإنسان.

ونجاح هذا المشروع فيه خير للوطن والمواطنين والدولة، فالوطن الذي تحترم فيه حقوق الإنسان يتعمق ولاؤه في نفوس أبنائه، ويستفيد من تفعيل طاقاتهم وقدراتهم في التنمية والبناء بأقصى حد ممكن، والمواطن الذي يتمتع بكامل حقوقه الإنسانية، يصبح أكثر سعادة وعطاءً وإخلاصاً لوطنه وأمته، والدولة التي ترعى وتحمي حقوق مواطنيها تستحق كل الولاء والالتفاف الشعبي داخلياً، وتحظى بالاحترام والتقدير عالمياً.

ولن يتحقق هذا النجاح إلا إذا بذل الإخوة الكرام أعضاء الجمعية جهودهم المباركة، وتعاونت معهم أجهزة الدولة، وأحاطهم المواطنون بالدعم والمساندة الكافية.

أخذ الله بأيدينا جميعاً لما فيه الخير والصلاح لخدمة ديننا وأمتنا وبلادنا، والحمد لله رب العالمين.
[1] عبود الشالجي، موسوعة العذاب، الطبعة الثانية 1999م، الدار العربية للموسوعات، بيروت.