كيف ننمي إرادة التعاون

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


القدرة على التعاون مع الآخرين، والنجاح في العمل الجمعي، هو مظهر لنضج الوعي، وسمو الخلق، وهو مفتاح التقدم والنهوض على الصعيد الفردي والاجتماعي.

فحين يتعاون الإنسان مع الآخرين، يتسع أفق تفكيره، لإضافة آرائهم إلى رأيه، كما تتضاعف إنتاجيته لانضمام طاقاتهم إلى طاقته.

وفي التعاون ترويض للنفس على المرونة، وحسن التوافق، وتنمية للقدرات الإدارية والأخلاقية.

إن أي إنسان مهما عظمت كفاءته وقدرته، فإنها تبقى محدودة أمام آفاق الحياة وإمكاناتها، وأمام تحديات الواقع ومجالات التطلع والطموح.

لذلك يجد نفسه إن كان طموحاً، أمام أحد خيارين:

الانكفاء على قدرته والانطلاق منها لتحقيق الممكن من الانجازات، أو التعاون مع الآخرين لمزيد من الإنتاجية والتقدم.

إن ضيق الأفق، وضعف الهمة، تدفع الكثيرين للخيار الأول، بينما ينطلق الواعون الناضجون باتجاه خيار الشراكة والتعاون.

والمجتمع المتقدم هو الذي تسود فيه حالة العمل الجمعي، في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية، بينما يفرز واقع التخلف أسلوب العمل الفردي، والعجز عن الشراكة والتعاون في شتى المجالات.

إن التفاوت القائم اليوم بين حال المجتمعات الغربية المتقدمة، وواقع مجتمعات العالم الثالث المتأخرة، مصداق بارز لهذه الحقيقة الواضحة.

هناك تتعاون الحكومات مع قوتها، ضمن أحلاف وتكتلات، كالاتحاد الأوربي، الذي يضم دول أوربا، ويهدف إلى تحقيق تكاملها الاقتصادي، وتنسيق جهود التنمية الاجتماعية، وتحقيق الوحدة السياسية، وقد أصدرت عملة موحدة (يورو) ولديها برلمان منتخب من جميع دولها.

وكذلك حلف شمال الأطلسي الذي يضم ستة عشر دولة، هي دول أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ويعمل كمنظمة دولية دفاعية، يستهدف حل الخلافات بين الدول الأعضاء بالطرق السلمية، واعتبار أي اعتداء على دولة في الحلف اعتداءً على الجميع، ويضع خططاً دفاعية مشتركة.

إضافة إلى مجموعة الدول الصناعية السبع (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، بريطانيا، أمريكا). وأمثال ذلك من التكتلات العالمية، التي تواصل تعاونها، وتخدم مصالح المشاركين فيها.

وفي تلك المجتمعات غالباً ما يكون النشاط الاقتصادي والصناعي، في إطار شركات تتراكم فيها الخبرات وتتجمع رؤوس الأموال، وبعضها أصبح عابراً للقارات، ومتعدد الجنسيات.

وبين حين وآخر يحصل اندماج واتحاد بين شركات كبيرة عملاقة، في نفس البلد أو من بلدان مختلفة. كالاندماج الذي حصل بين شركتي (شيفرون) و (تكساسكو) النفطيتين الأمريكيتين. واندماج ثلاث شركات كبرى للفولاذ، من ألمانيا وفرنسا وأسبانيا لتصبح شركة واحدة عملاقة هي الأكبر في العالم، تنتج سنوياً مليون طن من الفولاذ. ووصفت هذه الصفقة بأنها مذهلة لأن الشركات الثلاث هي في الأصل غريمة لبعضها.

كما أعلن أخيراً عن اندماج شركتين أمريكيتين ضخمتين في عالم الإنتاج الموسيقي هي شركة (إي. أم. آي) وشركة (تايم وورنر) وتقدر قيمة الشراكة الجديدة بعشرين مليار دولار، وحجم مبيعاتها ثمانية مليارات دولار سنوياً.

أما على الصعيد العلمي والاجتماعي في الغرب، فإن المؤسسات هي إطار الفاعلية والعمل، وقد انقرضت لغة العمل الفردي، ولم تعد مقبولة في تلك المجتمعات. وأصبح أفق التعاون عندهم عالمياً يتجاوز الدول والقارات، فقبل شهرين أعلن عن اتحاد الأحزاب الخضر في أوروبا، التي تهتم بحماية البيئة وتعارض الحروب وإنتاج الأسلحة الفتاكة فأتحدت 32 حزباً من 29 دولة لتدخل البرلمان الأوربي كقوة موحدة.

بالتأكيد فإن هذه المنهجية السائدة هناك، واعتماد لغة العمل الجمعي والتعاون المشترك، هي من أبرز أسباب تقدم تلك المجتمعات واستقرار أوضاعها السياسية وعلاقاتها الاجتماعية.

العالم العربي وحال التعاون


بينما نرى على الضفة الأخرى، في مجتمعات العالم الثالث التي ننتمي إليها، أن هذه المنهجية لا تزال محدودة التداول والاستخدام، فالفردية هي اللغة الشائعة في مختلف الميادين، ومشاريع التعاون والشراكة غالباً ما تتعثر وينفرط عقدها.

لقد مضى على تأسيس جامعة الدول العربية حوالي ستين عاماً، ومع ضخامة التحديات التي يواجهها العالم العربي، خاصة في هذه الأعوام الأخيرة، مما يجعل التعاون بين الدول العربية أشد إلحاحاً وأكثر ضرورة، إلا أن ما يحصل في إطار الجامعة العربية، يدل بوضوح على ضعف إرادة التعاون، وغياب روح العمل الجمعي، حيث لا تزال العلاقات مضطربة بين أكثر من دولة عربية، ولم تنجز الجامعة مشاريع مشتركة هامة، تلامس مصلحة المواطن العربي، وجاء انفراط عقد الاجتماع الأخير للقمة العربية في تونس، وقرار تأجيله ليكشف بجلاء تعثر منهجية التعاون والعمل الجمعي على مستوى الدول العربية.

وفي مظهر آخر لعمق الخلل في العلاقات العربية، وعجزها عن تحقيق أدنى مستويات التعاون، جاء تعثر الإعداد للمشاركة في معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت، في دورته السادسة والخمسين بتاريخ 6-10 أكتوبر من هذا العام 2004م، هذا المعرض الذي يعتبر أضخم مهرجان ثقافي عالمي، وتقرر من قبل ثلاث سنوات أن يكون العالم العربي هو ضيف الشرف فيه هذا العام، حيث يتمتع ضيف الشرف بجناح يخصص له، وتغطى معارضه وأنشطته بإعلام دولي مكثف، كما تتاح له فرصة إقامة مختلف الأنشطة الثقافية لمدة عام كامل على مستوى ألمانيا.

ومع ما يتعرض له العالم العربي من حملات إعلامية ضارية، لتشويه سمعته، والتقليل من شأن حضارته وتاريخه، واتهام ثقافته، في أعقاب 11 سبتمبر وما تلاها من أحداث منسوبة لجهات إسلامية، كل ذلك يفترض أن يوجد أشد الحرص لاستثمار هذه الفرصة العظيمة، في عرض منجزات الثقافة والحضارة العربية الإسلامية، والدفاع عن دورها التاريخي، لكن واقع العلاقات العربية قد يضيع مثل هذه الفرصة، أو يضعف إمكانية الاستفادة منها بالمستوى المطلوب، وقد طالب أمين عام جامعة الدول العربية بإدراج المشاركة في معرض فرانكفورت على جدول القمة العربية التي تأجلت في تونس.

إن المساحة المخصصة في المعرض للعالم العربي تسعة آلاف متر، ولم تسدد إلا بعض الدول العربية مبلغ سبعمائة ألف دولار من الرسوم التي تبلغ ثلاثة ملايين دولار!! تتحملها اثنتان وعشرون دولة عربية.

وكان من المقرر ترجمة 100 كتاب عربي إلى اللغة الألمانية، لم ينجز منها إلا عشرون كتاباً!!

ومن قائمة 350 ناشر عربي يفترض مشاركتهم في المعرض، لم يتقدم إلا 150 ناشراً فقط!!

وحسب البرنامج المقترح سيشارك حوالي 750 من المؤلفين والمفكرين والأدباء والفنانين والإعلاميين العرب، ليتعرف عليهم جمهور المعرض، وليشاركوا في فعالياته الثقافية، لكن الأموال اللازمة لنفقات سفرهم لم تؤمن بعد!!

لقد كتب الروائي السوري خليل صويلح مقالة حذر فيها من تحول مناسبة معرض فرانكفورت إلى إدانة للثقافة العربية بدل أن تكون للاحتفال بها!!

بالتأكيد لو كان ضيف الشرف دولة عربية واحدة، لقامت بما يلزم لذلك بمفردها، لكن شمول المشاركة لكل الدول العربية، أوجب هذا التعثر، وكما جاء في مقالة الكاتب اللبناني في صحيفة المستقبل حسن داوود: ((ما يمكن ملاحظته في أصل العزوف العربي هو انعدام الحماسة لذوبان أي من هذه الدول في ظهور عربي عام، يبدو ذلك النوع من الاشتراك، من وجهة نظر هذه الدول، لا يأتي بعائد معنوي يمكن استثماره أو الاعتزاز به)).

ولا تقف المشكلة عند حدود ضعف التعاون بين الدول العربية، بل إن هناك صراعاً حول المشاركة في المعرض بين اتحاد الناشرين العرب والمراجع الرسمية العربية، ثم بين اتحاد الناشرين العرب والجامعة العربية، وبين الناشرين من بعض الدول العربية واتحاد الناشرين المصريين.

التعاون على الصعيد الأهلي


إن واقع التعاون داخل الشعوب والمجتمعات الإسلامية ليس أحسن حالاً منه بين الحكومات، فحالة التنافر والتباعد هي السائدة بين مختلف القوى والجهات، من مذاهب وطوائف وأحزاب ومؤسسات، وحتى ضمن المذهب الواحد والمدرسة الواحدة، هناك عجز عن التعاون وتنسيق المواقف والجهود.

في هذا السياق نشرت الصحف هذه الأيام خبراً من العراق يحمل الكثير من الدلالات، حيث دشن ممثل (الكنيسة الانغليكانية) البريطاني (اندو وايت) المركز العراقي للحوار والمصالحة والسلام، وباشر دوره للقيام بالمصالحة بين القيادات الدينية العراقية السنية والشيعية، ونجح في عقد أول لقاء من نوعه بين السيد حسين الصدر كبير علماء الشيعة في بغداد وبين الشيخ عبدالقادر العاني من كبار علماء السنة هناك.[1] 

هكذا يحتاج عقد لقاء بين عالمين مسلمين عربيين عراقيين في مدينة واحدة، يعيش بلدهما أصعب الظروف حيث الاحتلال الأجنبي، وخطر التمزق الطائفي، يحتاج ذلك إلى وساطة من قبل ممثل الكنيسة البريطانية!!

إن هذه المفارقة المذهلة بين عجزنا عن التعاون فيما بيننا على مختلف المستويات، ونجاح الآخرين في اعتماد التعاون والمشاركة منهجية عامة لحياتهم وعلاقاتهم، تجعلنا أمام تحد كبير، وسؤال خطير، عن الأسباب الكامنة وراء هذه المفارقة؟

إننا ننتمي إلى دين يقرر الوحدة بين أتباعه كأصل لازم، إلى جانب أصل عبادة الله تعالى وتقواه، يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(الأنبياء: 92)، ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(المؤمنون: 52).

ويوجه القرآن الكريم أمراً صريحاً بوجوب التعاون والمشاركة في أعمال الخير، يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى(المائدة: 2).

إن نصوصاً دينية أخرى تأمر الإنسان بالقيام بأعمال البر والتقوى، لكن هذه الآية تأمر بالمشاركة واعتماد منهجية العمل الجمعي لإنجاز أعمال البر والتقوى.

ومع أن الصلاة فرض عين على كل مكلف مسلم، وتصح منه لو صلاها منفرداً، إلا أن الإسلام حث على أدائها جماعة، بل ذهب الحنابلة إلى وجوب الجماعة عيناً على كل مكلف للصلوات الخمس، وإن لم تكن شرطاً لصحة الصلاة، وقال الشافعية في الأصح المنصوص: الجماعة فرض كفاية، وهو رأي المذهب الأباضي أيضاً[2] ، أما بقية المذاهب (المالكي، الحنفي، الجعفري، الزيدي) فترى أن الجماعة سنة مؤكدة.

وفريضة الحج أوجب الله تعالى أداءها بشكل جمعي بتحديد زمان ومكان ونسك واحد لجميع الحجيج.

وقد جاء في الحديث عن رسول الله أنه قال: «يد الله مع الجماعة».[3] 

هذه التعاليم الدينية تهدف بعث روح العمل الجمعي، وتربية الأمة على منهجية التعاون والمشاركة. فلماذا لا تترك أثرها المطلوب في واقع حياة المسلمين؟

إن الوحدة والتعاون بين قوى الأمة شعار يرفعه الجميع، وقضية لا يعلن أحد معارضتها، ولكن كيف السبيل إلى تحقيق ذلك وتجسيده على أرض الواقع؟

إشكاليات وعوائق التعاون


يبدو أن هناك عوائق وإشكاليات أمام إرادة التعاون في مجتمعاتنا، تحتاج إلى تسليط الأضواء، والمعالجة الصريحة، وهي في غالبها ذات بعد نفسي سلوكي، ومن أبرزها:

عدم الشفافية والمكاشفة عند بحث العلاقات، ومشاريع التعاون، ففي المجتمعات الأخرى يتكلم كل طرف أمام الآخر عن مصالحه بجرأة ووضوح، ويحدد ما يريد وما يرفض، ويعرب عن هواجسه ومخاوفه بدون مواربة، أما في مجتمعاتنا فإن أسلوب المجاملة والمداراة هو المتداول، حيث تتكلم الأطراف حينما تلتقي بلغة المبادئ، وتزايد على بعضها في إظهار التسامي على المصالح، وإبراز الثقة المتبادلة، وإعلان الموافقة على ما يطرح، مع إضمار ما يخالف كل ذلك!!

وقد شاع التعبير عن مثل هذه الحالة بأنها معالجة المشاكل على طريقة ((تبويس اللحى)).

وأذكر مرة أني شاركت في لقاءٍ جمع بين جهتين دينيتين متنازعتين لإصلاح ذات بينهما، وفوجئت بما ساد اللقاء من أجواء إيجابية، حيث أكد كلا الطرفين بأن ليس هناك ما يستحق النزاع، وأن رضا الله تعالى هو الهدف، وبعد اللقاء أبدى كل منهما شكوكه في كلام الآخر، وإصراره على التمسك بمواقفه؟!

إننا بحاجة إلى تجاوز هذه الازدواجية، واستخدام لغة المكاشفة والمصارحة، فالاهتمام بالمصالح والدفاع عنها ليس عيباً، وعرض المطالب والرغبات أمر مشروع، والإعراب عن الهواجس والمخاوف ليس إساءة، إن الوضوح والشفافية بين الأطراف هو الخطوة الأولى في طريق التفاهم والتعاون.

العلاقات والتأثير العاطفي


ومن عوائق التقارب والتعاون محورية العواطف والأحاسيس في نظرة الأطراف إلى بعضها، لقد تجاوز الأوربيون آثار حربين عالميتين حصلت فيما بينهم خلال نصف قرن من الزمن، الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، والحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، وقد سببت الحرب العالمية الأولى دماراً كبيراً، إذ مات نحو 10 ملايين جندي نتيجة للحرب، وجرح نحو 21 مليون رجل، ولا أحد يعرف كم عدد المدنيين الذين ماتوا من المرض والجوع والأسباب الأخرى المتعلقة بالحرب، ويعتقد بعض المؤرخين أن عدد المدنيين الذين ماتوا كان يساوي عدد الموتى من الجنود 10 ملايين. أما الخسائر الاقتصادية فتقدر بنحو 337 بليون دولار أمريكي، عدا عن الآثار السياسية والاجتماعية.

أما الحرب العالمية الثانية فيزيد عدد ضحاياها من الجنود على 30 مليوناً وقد يصل العدد من الضحايا المدنيين إلى ضعف ذلك..[4] 

لكنهم تجاوزوا كل تلك الآثار، وصاروا يتعاونون كحكومات وشعوب وجماعات ومؤسسات، يتحدثون عن تلك الحروب كتاريخ مضى، ويخلدون أحداثها ضمن المتاحف والمعارض، دون أن يوظفوها في تعبئة الانفعالات، وإثارة الكراهية والبغضاء.

لكننا لا زلنا نعيش آثار معارك التاريخ الغابر لأمتنا، ونحمّل بعضنا بعضاً نتائج ما حصل بين الأسلاف، وبدل أن نأخذ من التاريخ دروسه، ونستفيد من عبره، أصبحنا أسارى لانفعالات وقائعه وأحداثه، لتذكي بيننا مختلف ألوان الصراعات المذهبية والقومية والسياسية والإقليمية والقبلية.

وحتى على المستوى العائلي يتوارث الأبناء صراعات آبائهم وأجدادهم لتبقى الأرحام مقطوعة، والعلاقات متشنجة.

إننا بحاجة إلى إثارة عقولنا وترويض عواطفنا وانفعالاتنا، لندرك أن مصلحتنا في التعاون والتقارب.

ولعل من أسوأ عوائق الوحدة والتعاون في ساحة الأمة، ما يسميه البعض التزاماً شرعياً مبدئياً يمنعه من الاقتراب من الآخر المخالف له في الرأي، والمشاركة معه في أي مشروع، لأنه يعتبر الآخر مبتدعاً ضالاً، يأمر الشرع بهجره ومقاطعته، بل ومحاربته، وبغض النظر عن خطأ مثل هذه الأحكام غالباً، فإن الشرع يفسح المجال للتحالف حتى مع غير المسلمين حينما تكون هناك مصلحة مشتركة، كما نصت صحيفة المدينة التي وضعها رسول الله بداية الهجرة على التحالف مع قبائل يهود المدينة، وكان هناك عقد معاهدة بينه وبين قبيلة خزاعة من المشركين، إضافة إلى عدد من المعاهدات والأحلاف الأخرى المذكورة في السيرة النبوية.

إن التحديات الخطيرة التي تواجه الأمة تفرض نوعاً من الاستقرار في علاقاتها الداخلية، وتوجب مستوى من التعاون بين أطرافها وقواها المتنوعة فكرياً وسياسياً، وتجاهل ذلك نوع من الجهل والغباء، والتبريرات الشرعية المدعاة هي خطأ في فهم مراد الشرع، أو التباس في موارد التشخيص والانطباق.

مواقع الاتفاق ونقاط الاختلاف


وهناك عائق آخر يتمثل في التسمّر أمام نقاط الخلاف، وسيطرتها على الأذهان والنفوس، مما يمنع الاتجاه إلى مواقع الاتفاق، وموارد الاشتراك، فليس شرطاً أن تتفق الأطراف المختلفة على كل شيء لتبدأ التعاون، بل يمكن الانطلاق من نقطة اتفاق واحدة لخدمة مصلحة مشتركة.

وهذا ما عرضه القرآن على اليهود والنصارى في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً(آل عمران: 64).

ومن هذا المنطلق كانت معاهدات رسول الله مع غير المسلمين من يهود ونصارى ومشركين.

إن وجود مشروع مشترك ومصلحة متبادلة في جانب ما بين الأطراف المختلفة، يجعلها أقدر على معالجة سائر الجوانب، أو تجميد الآثار السلبية للاختلاف فيها.

ومن المتعارف الآن في العلاقات السياسية أن تذكر البيانات المشتركة مواقع الاتفاق إلى جنب نقاط الاختلاف، كما أن أنظمة المؤسسات الجمعية الدولية والإقليمية، تفسح المجال لفرز الأصوات، الموافق منها والمخالف والممتنع عن التصويت، حول أي مشروع يطرح. فإذا ما اختلفنا حول مسألة أو قضية لا يعني ذلك إنهاء العلاقة، وإلغاء التعاون والانسحاب من الشراكة.

الخوف من التعاون


يخاف البعض من التعاون مع الآخرين لضعف ثقته بذاته، وأنه حينما يتعاون معهم قد يقع تحت تأثيرهم، أو يُحتوى وضعه لصالح نفوذهم، وقد تخشى بعض الزعامات وخاصة الدينية والفكرية من أن التعاون يجعل ساحة تيارها مفتوحة أمام تأثير الآخرين، لكن هذه المخاوف وأمثالها تشكل تكريساً لحالة الضعف وتستراً عليها، والجهة الواعية هي التي تقبل التحدي وتستجيب له، لترتفع إلى مستواه، فتتعاطى مع الآخرين بثقة، وتدخل حلبة التنافس الإيجابي باطمئنان، وبذلك تكتشف نقاط ضعفها فتعالجها، وتدرك مواقع قوتها فتنميها، فالتعاون بثقة سبيل لاكتساب القوة.

وفي بعض الأحيان تتضخم الأنا والذاتية عند البعض، فلا يرون الآخرين أنداداً لهم يستحقون التعاون، فهم الحق وغيرهم باطل، وهم الشرعية وسواهم أدعياء، وهم الكبار ومن عداهم أقزام، وقد يحيط البعض نفسه بهالة من العظمة والقداسة أمام الأتباع، فيخاف من التعاون أن يظهره على واقعه.. وهذه الأوهام تمثل حالة مرضية، لأن التفكير السليم يدفع القوي إلى تفعيل وجوده بالانفتاح على الآخرين وليس بالانكفاء دونهم.

إن الدول الكبرى في العالم تشارك في عضوية المؤسسات الدولية إلى جانب أصغر الدول، وتدخل معها في اتفاقات وتحالفات.

تنمية روح التعاون


كيف ننمي روح التعاون في مجتمعاتنا؟ وكيف نتجاوز هذه الحال السلبية المتخلفة؟

إننا بحاجة إلى ثقافة تدعو إلى التعاون، وتبشّر به في جميع الأوساط والميادين، ويجب أن نفضح العوائق الفكرية والنفسية التي تعرقل مسيرة التعاون، وتوقف حركتها، وخاصة ما ينسب منها إلى الدين، لأنها تعني تحميل الدين مسؤولية التخلف، وأنه العائق أمام إرادة التعاون.

وأعتقد أنه يوجد في جميع الأطراف والاتجاهات الدينية والفكرية والسياسية عقلاء يدركون سوء واقع العلاقات الداخلية في الأمة، لكن أصواتهم تبدو خافتة أمام أصوات المتطرفين في جماعاتهم، أولئك الذين يجدون دورهم ومصلحتهم في الحفاظ على هذا الواقع السيئ، ويستخدمون سلاح إثارة العواطف، وإلهاب المشاعر الدينية أو السياسية في أوساط جماهيرهم، لوصف أي مشروع تعاون وتقارب مع الآخرين بأنه تضييع للقضية، أو تمييع للعقيدة، أو تنازل عن الثوابت والمبادئ!!

على العقلاء من كل طرف أن يصمدوا أمام هؤلاء المرجفين المتشددين، وأن يراهنوا على إثارة العقول، وبث الوعي السليم، وتطوّر الجيل المعاصر، وانفتاحه على العالم الحديث.

كفى مراعاة لهؤلاء المتشددين على حساب مصلحة الأمة، وكفى مجاملة للشارع على حساب الشرع والعقل.

إنني أعرف عن عدد من القيادات السياسية والدينية والاجتماعية عدم رضاها عن كثير من الأوضاع السائدة، لكنها تخشى صولة المتطرفين، وهيجان العامة، وقد قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً(الأحزاب: 39).

نماذج ومبادرات


لكي تسود منهجية التعاون في مجتمعاتنا ينبغي أن تنطلق المبادرات التعاونية على مختلف الأصعدة، لتتراكم التجارب، وتتوفر النماذج المشجعة، إن على كل من يؤلمه واقع العلاقات المتردية داخل الأمة، ويتطلع إلى سيادة روح التعاون والعمل الجمعي، أن يبادر بشخصه ومن موقعه، وبما يمثل من دور، لمدِّيدِّ التعاون والانفتاح على الآخرين، لتحويل التطلع إلى واقع، والفكرة إلى عمل.

إن على المرجع الديني الذي يدعو إلى التعاون أن يخطو باتجاه التعاون مع سائر المرجعيات الدينية.

والمفكر الذي ينظّر للوحدة عليه أن يطرح مشروع عمل يشترك فيه مع المفكرين الآخرين.

والسياسي الذي يندد بحالة التشرذم والخلافات، عليه أن يقدم نفسه نموذجاً للتعاون مع الآخرين.

ورجل الأعمال الذي تبهره ضخامة الشركات الأجنبية عليه أن يسعى لإقناع أمثاله باندماج مؤسساتهم الاقتصادية.

وهكذا العاملون في المجال الاجتماعي والعلمي وسائر المجالات.

نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا وأن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى ما فيه الخير والصلاح، والحمد لله رب العالمين.
[1] الحياة: جريدة يومية تصدر من لندن، العدد 14962، 15 مارس 2004م.

[2] اطفيش: محمد بن يوسف، شرح كتاب النيل وشفاء العليل، ج2 ص206، الطبعة الثالثة 1985م، مكتبة الرشاد، جدة.

[3] المتقي الهندي: كنز العمال، حديث رقم 20241.

[4] الموسوعة العربية العالمية، ج9 ص 242،209،الطبعة الثانية 1999م، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض.