القيادة النبوية وتحدي المعارضة

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


قد يحلو لأي قائد أن يحظى بالولاء المطلق ممن حوله، وأن تكون استجابتهم كاملة لآرائه وأوامره، فلا ينشغل باله برأي مخالف، ولا يُعرقل شيئاً من خططه وبرامجه موقف معارض.

لكن ذلك مما يستحيل حصوله عادة في المجتمعات البشرية، فمن يتصدى للقيادة والزعامة ـ دينية أو سياسية ـ، لا يعدم مناوئاً أو مخالفاً أو منافساً، والامتحان الحقيقي لأي قيادة هو في التعامل مع مثل هذه الحالات.

إن النهج السائد المتبع عند الزعامات السياسية والدينية في المجتمعات غير الديمقراطية، هو رفض هذه الحالات وقمعها، بمختلف العناوين والمبررات، كالحكم عليها بالكفر والمروق، أو إدانتها بالخيانة والانشقاق، أو اتهامها بالإفساد والتخريب.

وينبثق هذا النهج من عقلية الاستبداد، وتضخّم الذات، وحب الهيمنة والاستحواذ، ويؤدي إلى تهميش المجتمع، ووأد طاقاته وكفاءاته، كما يؤسس لحالات الانقسام والمواجهة والصراع.

والنبي كقيادة دينية سياسية، واجه هذه الحالات داخل مجتمعه الذي أسسه وكان يقوده، فكيف كان منهج تعامله معها؟

إن الحديث ليس عن الأعداء المناوئين من خارج المجتمع الإسلامي، كاليهود والكفار، فمعاناة النبي منهم، ومواجهته لهم، وحروبه معهم، معروفة واضحة.

إنما الحديث عن التيارات المناوئة، والعناصر المخالفة، داخل المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة.

حيث تشير آيات القرآن الكريم، وأحاديث السنة الشريفة، وروايات السيرة النبوية، إلى وجود مثل تلك التيارات والعناصر.

إن الخطاب الإسلامي غالباً ما يركز على صور الاستجابة والإذعان من قبل الصحابة لرسول الله ، وهي بلا شك صور رائعة مشرقة، تدّل على عمق محبة رسول الله في قلوب أتباعه، وصدق إيمانهم به، وشدة تأثرهم بشخصيته، حتى قال أبوسفيان بن حرب وهو في موقع المناوأة والمواجهة لرسول الله : ((ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً)).[i] 

لكن هذا ينطبق على الصحابة الصادقين المخلصين، وليس على كل أفراد المجتمع المحيط برسول الله ، حيث يؤكد القرآن الكريم وجود تيار داخل المجتمع الإسلامي يضمر العداء للإسلام، ويثير المتاعب في وجه رسول الله ، هو تيار المنافقين. يقول تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ(التوبة: 101).

والصادقون في إسلامهم مع رسول الله لم يكونوا ملائكة، ولا معصومين، لا تصدر من أحد منهم مخالفة أو معارضة، بل كانوا بشراً معرّضين لحالات الجهل والغفلة، وسيطرة الانفعالات العاطفية، والاندفاعات المصلحية، خاصة وأنهم حديثو عهد بالانتماء إلى الدين، ومن الطبيعي أن تبقى في النفوس رواسب وآثار من الحقبة الجاهلية.

لكل ذلك واجه رسول الله من بعضهم مواقف مخالفة، وتصرفات مزعجة، وذاك أمر متوقع، ويهمنا في هذا البحث أن نتعرف على منهج رسول الله في التعاطي مع حالات المعارضة والخلاف، سواء كانت ناتجة عن توجه عدائي مناوئ للدعوة، كما هو حال المنافقين، أو عن خطأ وسوء تصرف من قبل بعض المسلمين.

المنافقون والدور الخطير


استقطب الإسلام أبناء قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة، والتفوا حول رسول الله حينما هاجر إليهم، وخضعوا لقيادته، ثم التحق بهم المسلمون من أبناء مكة وغيرهم، فتأسس في المدينة مجتمع جديد، بقيادة جديدة، خارج نسق الانتماءات القبلية.

لكن بعض العناصر وخاصة من طبقة الأثرياء والنافذين، لم تذعن قلوبهم للإسلام، ورأوا في قيادته وتعاليمه إلغاءً لنفوذهم، وتحجيماً لمصالحهم، في ذات الوقت لم يكونوا قادرين على الوقوف أمام التيار الكاسح، فأظهروا الولاء للإسلام والخضوع لقيادته، بينما كانوا يضمرون غير ذلك.

وأطلق القرآن الكريم على هذه الازدواجية عنوان (النفاق)، وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به. كما يقول ابن منظور في لسان العرب.

والنفاق مأخوذ من النَفَق وهو: سَرَب في الأرض مشتق إلى موضع آخر.

وفي التهذيب: له مخلص إلى مكان آخر.

قال أبوعبيد: سمي المنافق منافقاً للنفق وهو السرب في الأرض، يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه.

وقيل إنه مأخوذ من السرب باعتبار الاستتار فيه لستره كفره.[ii] 

وكلا الاعتبارين متوفر في حال النفاق، فهو إظهار الإسلام كغطاء وستار لواقع الكفر، يشبه استتار النفق تحت الأرض، وهو اتخاذ الإسلام معبراً وطريقاً وليس قصداً وغاية، كاستخدام النفق للولوج فيه من جهة والخروج من الجهة الأخرى.

كانت هذه العناصر تنتمي إلى قبائل المدينة، وبعضها من قبائل البادية المحيطة بالمدينة، كما يذكر القرآن الكريم: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وإذا كان المنافقون من قبائل الأعراب في البادية يمارسون نفاقهم بشيء من البساطة، فإن منافقي المدينة قد تكرست عندهم خبرة النفاق ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ أي مرنوا عليه ودربوا به، ومنه الشيطان المارد في الشيطنة.

وأغلب المنافقين كانوا من ذوي الثروة والنفوذ، أو الطامحين للزعامة والمواقع، كما يظهر من حديث القرآن الكريم عنهم (إن الآيات الواردة في حق المنافقين ومرضى القلوب، تلهم روحاً أو مضموناً، أو روحاً ومضموناً في آن واحد، أن حركة النفاق إنما قام بها وتولى كبرها أفراد من البارزين في قومهم وعشائرهم قليلاً أو كثيراً، بل إننا لنكاد نقول استلهاماً من روح الآيات ومضمونها إن معظم أفراد هذه الفئة من تلك الطبقة، وإنه إذا كان اندمج فيها أناس من طبقة السواد أو العامة فإنهم لم يكونوا كثيرين وإنّما انساقوا فيها بتأثير أولئك، من ناحية زعامتهم وعصبية الأرحام التي تربط بينهم، أو من ناحية الإغراء والمنفعة)[iii] ، ومن أبرزهم عبدالله بن أبي بن سلول الخزرجي، وكان مرشحاً لتولي زعامة المدينة قبل الإسلام، وكذلك الجدّ بن قيس وكان زعيماً في قومه بني سلمة.

هذه العناصر بمكانتها القبلية، ولتسترها بالإسلام، واستغلالها للمشاعر العاطفية، وآثار العهد الجاهلي ورواسبه في النفوس، امتلكت مساحة من التأثير في المجتمع، ويشير قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ(النساء: 88) إلى انقسام الرأي في المجتمع الإسلامي حول المنافقين ومواقفهم، فهناك من كان يحسن الظن بهم، ويدافع عنهم، انطلاقاً من العصبية الاجتماعية والمصالح المشتركة، أو من وحي البساطة والانخداع، وطلب مزيد من الفرصة لهم للهداية والإصلاح.

ويكفي لمعرفة حجم تأثيرهم ما ينقله التاريخ من أن زعيمهم عبدالله بن أبي حينما انسحب من جيش المسلمين في الطريق إلى أحد، انسحب معه ثلاثمائة مقاتل، أي حوالي ثلث الجيش الإسلامي، وكاد أن يؤثر على بني حارثة من الأوس، وبني سلمة من الخزرج، لينسحبوا معه.

وحصل مثل ذلك في غزوة تبوك حيث انسحب عبدالله بن أبي ومعه عدد غير قليل من مؤيديه، حتى قال ابن إسحاق إن المعسكر الذي انسحب مع ابن أبي ليس بأقل العسكرين[iv] ، أي أنه يوازي المعسكر الذي قاده رسول الله ، ولعل في هذه الرواية شيئاً من المبالغة، لكنها تعبر عن حجم هذا التيار.

بيد أن الأهم إدراك مدى خطورة هذا التيار على مسيرة الدعوة وبناء المجتمع الإسلامي، فقد لعب دوراً خطيراً، وخاصة في مرحلة التأسيس، حيث كانت تحيط بالتجربة أخطار هائلة، وكان عود الإسلام غضاً طرياً، بعد لم تتمكن قيمه ومفاهيمه من القلوب والنفوس.

من مواقف التآمر والعداء


إن كثرة الآيات القرآنية التي تتحدث عن النفاق والمنافقين، وتسلط الأضواء على مواقفهم وصفاتهم، حتى لا تكاد تخلو منها سورة مدنية، لتكشف عن مستوى الخطورة التي كانوا يمثلونها.

1. فقد لعبوا دور الطابور الخامس داخل المجتمع لصالح مخططات الأعداء الخارجيين، كاليهود والمشركين، حيث كانوا يتواصلون معهم، ويشجعونهم على محاربة الإسلام، وينسقون معهم الجهود والمواقف.

إنهم جزء من المجتمع ظاهراً، لكن ولاءهم ليس للمجتمع، إنما هو لأعدائه، يقول تعالى: ﴿بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ(النساء: 138-139)، فهم يخادعون المجتمع بإظهار انتمائهم إليه، بينما هم حلفاء للقوى المعادية، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(البقرة: 114)، وشياطينهم هنا هم اليهود كما يقول المفسرون.

وحينما حاصر المسلمون يهود بني النضير بعد خياناتهم المتكررة، كان عبدالله بن أبي وأتباعه من المنافقين، يتواصلون مع بني النضير لتشجيعهم على المقاومة والصمود، ولرفع معنوياتهم، مؤكدين تحالفهم وتضامنهم معهم. يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ(الحشر: 11).

وواضح خطورة مثل هذا الدور في وواضح خطورة هذا الدور في مجتمع يعيش حال حرب ودفاع، ويحيط به الأعداء من كل جهة.2. وهناك دور أخطر يتمثل في سعيهم المحموم لإضعاف الجبهة الداخلية، ببث الشكوك تجاه الدين وقيادة الرسول ، وقد سجل القرآن الكريم بعض صور إشاعاتهم وأراجيفهم كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً(التوبة: 124).

وصورة أخرى تنقلها الآية الكريمة: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ(الأنفال: 49). ويسجل القرآن الكريم عنهم قولهم في غزوة الأحزاب: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً(الأحزاب: 12).

3. كانوا يسخرون من شخصية رسول الله بصورة مؤذية، ويصفونه بالسذاجة والبساطة، وأنه يسمع ويقبل كل ما يقال له دون وعي وتمييز، كما نقل ذلك عنهم القرآن الكريم: ﴿وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ(التوبة: 61).

وكانوا يشككون في سياساته الاقتصادية، يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ(التوبة: 58)، واللمز القدح والاعابة.

4. ووصل بهم الأمر إلى الطعن في عرض رسول الله واتهام عفة زوجاته، وذلك في حادثة (الإفك) التي ذكرها القرآن الكريم، وجاء في كتب السيرة النبوية أن النبي لما قفل راجعاً من غزوة بني المصطلق، وفي آخر مرحلة من الطريق تأخرت زوجته عائشة لطلب عقد افتقدته، فظنوها في هودجها وسارت القافلة عنها، فلما وصلوا المدينة لم يجدوها في الهودج، فمر بها صفوان بن المعطل وأركبها على ناقته، وجاء يقودها إلى المدينة، فوجد عبدالله بن أبي الفرصة سانحة للطعن في عرض رسول الله فقال: ((والله ما نجت منه ولا نجا منها)) وتلقف قوله أصحابه فأشاعوه، وتأثر رسول الله لذلك حتى نزل الوحي ببراءة زوج رسول الله وإدانة موقف المنافقين.

5. كانت لهم لقاءات واجتماعات للتآمر ووضع الخطط الكيدية، واكتشفهم الرسول ونهاهم وحذرهم، لكنهم لم يتوقفوا عن ذلك الدور التآمري يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ(المجادلة: 8). والمناجاة هي التحادث الخفي.

6. كانوا يقومون بدور الإرباك وتثبيط العزائم، وعرقلة أوامر القيادة، وإفشال البرامج والسياسات، فتارة يشيعون بين المتأثرين بهم الامتناع عن الإنفاق وتقديم المال، لإضعاف الوضع الاقتصادي، من أجل الضغط على أتباع الإسلام: ﴿هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا(المنافقون: 7).

وعند كل معركة كانوا يبثون روح التخاذل، ويسعون لتعويق حركة الجهاد: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً(الأحزاب: 18).

7. وقد تجرؤوا على التخطيط لتصفية رسول الله واغتياله، عند رجوعه من غزوة تبوك، إذ نصبوا له كميناً على عقبة في الطريق ليلاً، لتنفر ناقته وتقع به وسط الوادي، وكانوا أكثر من عشرة أشخاص ملثمين، فعرف رسول الله خطتهم، وكشف لبعض أصحابه عن أسمائهم، وأنجاه الله تعالى من مؤامرتهم.

اللهم صل وسلم على نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ووفقنا لإتباعه وارزقنا شفاعته يوم القيامة.
[i] ابن هشام، السيرة النبوية، ج3 ص191، الطبعة الأولى 1994م، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

[ii] ابن منظور: محمد بن مكرم بن علي، لسان العرب، ج6 ص694، دار الجيل، بيروت 1988م.

[iii] دروزة: محمد عزة، سيرة الرسول ، ج2 ص79، المكتبة العصرية، بيروت.

[iv] ابن هشام: السيرة النبوية، ج4 ص173.