الأمة وتحدي الإصلاح الداخلي (2)

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


إن الواقع المتخلف الذي تعيشه المجتمعات العربية والإسلامية قد أصبح مصدر قلق وإزعاج على المستوى العالمي، لما يفرز من بؤر توتر واضطراب، تتمثل في توجهات العنف والإرهاب، وتيارات التعصب والتطرف، والتي امتدت أنشطتها وممارستها الخطيرة إلى مختلف بقاع العالم، كأحداث 11 سبتمبر 2001م في أمريكا، وتفجيرات جزيرة بالي في اندونيسيا 2002م وتفجيرات قطار مدريد 2004م والتهديدات المستمرة في مختلف بلدان العالم.

ومن تداعيات هذا الواقع تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين واللاجئين نحو الدول المتقدمة، وحسب ما أفاده الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي عبدالواحد بلقريز في الاجتماع الأخير للمنظمة في اسطنبول، فإن 70% من اللاجئين في العالم من المسلمين.[i] 

كما أن سيطرة حالة الفقر والركود الاقتصادي على هذه المساحة البشرية الواسعة لا يخدم تقدم الاقتصاد العالمي.

إن هذا الواقع لم يعد مقبولاً على المستوى الدولي، وهو مخالف لحركة البشرية نحو التطور والتقدم، فلابد من حصول تغيير وإصلاح من داخل الأمة لواقعها السياسي والاجتماعي، وإلا فإن المجتمع الدولي لن يسكت على هذا الواقع طويلا.

حيث يشير تقرير التنمية العربية 2002م إلى أن الاتجاه في عموم البلدان العربية على صعيد الحريات المدنية السياسية كان هابطاً إلى أدنى مستوى من التمتع بالحريات بين مناطق العالم المعتبرة. كما تحتل المنطقة العربية أدنى مستويات التمثيل والمساءلة كأهم أركان الحكم الصالح بين مناطق العالم.

إن أكثر من بلد عربي يخضع لقانون الطوارئ منذ سنوات ويقدم فيه المدنيون للمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة (الاستثنائية).

كما يمنع قيام منظمات المجتمع المدني في أغلب البلدان الإسلامية.

وليس يخفى على أحد أن جملة البلدان العربية، قد خضعت منذ عهود الاستقلال، إلى أنظمة سياسية لم تستطع أن تتخلى عن نزعات الاستبداد المنحدرة من عصور التاريخ القديمة والمتأخرة، فظل هامش الحريات محدوداً في مواطن، أو غائباً تماماً في مواطن أخرى.

وساهم القمع والتهميش في قتل الرغبة في الانجاز والسعادة والانتماء، ولذا نلاحظ سيادة الشعور باللامبالاة والاكتئاب السياسي، ومن ثم ابتعاد المواطنين عن المساهمة في إحداث التغيير المنشود في الوطن.

إن أكثر من نصف النساء العربيات لا يزلن أميّات، وإن معدل وفيات الأمهات أثناء فترة الولادة في المنطقة هو ضعف معدلها في أمريكا اللاتينية والكاريبي، وأربعة أضعاف معدلها في شرق آسيا.

كما تعاني النساء في بعض البلدان العربية من عدم المساواة في المواطنة، وفي الحقوق القانونية، التي غالباً ما تتجلى في حرمانها من حقها في التصويت والانتخاب، ولا تزال الاستفادة من قدرات المرأة العربية من خلال المشاركة السياسية والاقتصادية هي الأقل في العالم.

تخلص البشرية من الرق


لقد تجاوزت البشرية ظاهرة الرق والاستعباد، التي كانت منتشرة في مختلف أنحاء العالم، ومن بدايات التاريخ البشري، بسبب الحروب والصراعات، وحوادث الخطف ووجود تشريعات قديمة تفرضه عقوبة على بعض الجرائم، ثم جاءت أعمال القرصنة الأوربية منذ أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، على شكل غارات وحملات خطف منظمة لأبناء القارة الأفريقية، ونقلهم إلى أمريكا الشمالية ومناطق أوربا لبيعهم كعبيد أرقاء.

إلى أن شهد أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بدايات التوجه لإلغاء الرق وتحرير العبيد، حيث أصدر مجلس الثورة الفرنسي سنة 1791م قراراً بإلغاء الرق في جميع المستعمرات الفرنسية، ومساواة جميع من فيها في الحقوق والواجبات مع تمتعهم بالجنسية الفرنسية.

لكن حين تولى نابليون الحكم، لاحظ انخفاض صادرات المستعمرات الفرنسية التي تعتمد على اليد العاملة الزنجية، فأصدر قراراً عام 1802م بالعودة إلى استرقاق الزنوج، فثار الزنوج في المستعمرات وقاوموا مدة ثلاث سنوات فقضى نابليون على ثورتهم وأعادهم إلى الرق.

وفي عام 1884م صدر قرار في فرنسا بإلغاء الرق في المستعمرات الفرنسية تماشياً مع قرارات مشابهة اتخذتها بريطانية والبرتغال، وهولندا والدنمارك.

وأصدر ابراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1863م إعلاناً بتحرير الرقيق، وكان ذلك من أسباب اغتياله عام 1865م.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وقعت الدول المشتركة في عصبة الأمم عام 1926م اتفاقية تقضي بملاحقة تجارة الرق والمعاقبة عليها، والعمل على إلغاء الرقيق بجميع صوره، وفي عام 1948م أصدرت هيئة الأمم المتحدة إعلاناً عالمياً تضمن حظر الرق وتجارة الرقيق[ii] ، وهكذا انتهى الرق وتخلصت البشرية من مآسيه.

كفاح البشرية ضد الاستعمار


ثم تجاوزت البشرية ظاهرة الاستعمار، والتي عانت منها أكثر شعوب العالم منذ القرن الثامن عشر الميلادي، حيث زحفت موجات بشرية من الأوربيين لتستوطن بلداناً كثيرة، أو تستولي عليها عسكرياً، لتتحكم في أمورها وتسيطر على مقدراتها.

وبعد أن تحركت الشعوب رافضة ثائرة، وتصاعدت مقاومتها للاستعمار، تجاوبت معها الجهود الدولية العالمية، وأصدرت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بتاريخ 14 ديسمبر 1960م قراراً تضمن مبدأ منح شعوب العالم غير المستقلة حق تقرير المصير. وأيدت هذا الاتجاه مؤتمرات دول عدم الانحياز. وفي نوفمبر 1961م أنشأت الأمم المتحدة لجنة خاصة لتصفية الاستعمار، ووافقت على إنشاء هذه اللجنة جميع الدول الأعضاء باستثناء بريطانيا والبرتغال وجنوب أفريقيا.[iii] 

وأخيراً تجاوزت البشرية ظاهرة الاستعمار وانسحبت بريطانيا من جميع مستعمراتها، وانتهى الحكم العنصري في جنوب أفريقيا ولم يبق إلا الاحتلال الصهيوني، وتعويقه لإرادة الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.

معركة البشرية ضد الاستبداد


وتجد البشرية نفسها الآن في معركة التخلص من الاستبداد والذي يعني إلغاء دور الناس ومشاركتهم في القرار السياسي، وفي تسيير شؤون حياتهم، لحساب فرد أو فئة تمسك بأزمة السلطة والحكم.

لقد تجاوزت أغلب شعوب العالم هذه الحالة وأصبحت تتمتع بميزات النظام الديمقراطي الذي يتيح لهم المشاركة السياسية، وحرية التعبير والرأي، ويفتح مجال التداول السلمي للسلطة، لكن المجتمعات الإسلامية في معظمها محرومة من هذه الفرص، وتعيش معاناة احتكار القرار، وما يستتبعه من تهميش لإرادة الناس، واستئثار بمقدراتهم.

وذلك سبب رئيس في تكريس واقع التخلف، وإفراز حالات العنف، وتفشي مظاهر الفقر والفساد.

وكما تجاوزت البشرية ظاهرة الرق، وظاهرة الاستعمار، بعد كفاح ونضال عالمي، فإنها ستتجاوز ظاهرة الاستبداد في هذه الحقبة من الزمن.

إن رقعة الديمقراطية تتسع عالمياً يوماً بعد آخر، وقد أصبحت الخيار الذي تتطلع إليه جميع الشعوب، وإذا كانت مصالح بعض الدول الكبرى ذات يوم تقتضي دعم أنظمة الاستبداد، فقد تغيّرت المعادلة الآن بفضل تتطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وأصبح الاستبداد عائقاً أمام حركة الاقتصاد، وقطار العولمة الشاملة.

بالتأكيد فان بعض القوى الدولية والإقليمية ستبقى مدافعة عن الاستبداد حتى آخر لحظة، كما كان هناك من أصر على التمسك بنظام الرق، واستمرار الهيمنة الاستعمارية. لكن ذلك اتجاهاً مخالفاً لحركة التاريخ، وتطور المجتمعات البشرية لا يمكن استمراره ولا صموده.

والحديث هنا عن الديمقراطية باعتبارها آلية لتحقيق المشاركة الشعبية، والتداول السلمي للسلطة، وتوفير حرية التعبير عن الرأي، ولا اعتراض للإسلام على هذه المضامين، كما لا يحظر أي آلية مناسبة لتحقيقها، ولسنا ملزمين بحرفية تجارب الشعوب الأخرى، بل يمكننا الاستفادة من المناهج والأساليب بما لا يتعارض مع ثوابت الدين.

ومن المؤسف أن تتركز حالة الممانعة للمسار الديمقراطي في المنطقة العربية والإسلامية، وأن تتعنون ممارسات الإرهاب والعنف باسم الأمة والإسلام.

مما فسح المجال للحديث عن صدام الحضارات، وإظهار الإسلام كعائق لتقدم أتباعه ولاستقرار العالم، وأصبح ذلك مبرراً لكي تبحث المؤسسات الدولية والقوى العالمية واقع هذه المنطقة، وتطرح الحلول والمشاريع لتغييره وإصلاحه.

ومن أخطر القضايا المثارة في هذا السياق هو التمترس بالإسلام لتبرير واقع الاستبداد من جهة، ولتسويغ ممارسات الإرهاب والعنف من جهة أخرى. فالديمقراطية مخالفة للإسلام، والمجتمعات الإسلامية لها خصوصيتها، والجهاد ضد الكفار فريضة، وإرهاب الأعداء واجب.

ومما يساعد على ترويج هذه الأقوال إتصاف المساحة الأوسع من تاريخ المسلمين بسمة الاستبداد، حيث كان الأمويون والعباسيون والعثمانيون يحتكرون السلطة ويتداولونها وراثياً بالقوة والغلبة، وكان إلى جانبهم فقهاء يمنحونهم الشرعية الدينية.

فهناك جذور تاريخية للاستبداد ومدرسة دينية لتأصيله وتشريعه.

لكن الباحث الموضوعي يستطيع أن يفصل بين الواقع التاريخي السيئ للمسلمين، وبين حقيقة مفاهيم الإسلام وتشريعاته. ووجود مسار آخر في التاريخ الإسلامي يعارض ما كان قائما، ويبشر بقيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان برؤية دينية واعية، يؤكد مصداقية هذا الفرز المطلوب.

والدليل الأوثق والأصدق يتجلى في سيرة رسول الله ، فإذا كان النص الديني يحتمل أكثر من قراءة وتفسير، وإذا كان رأي الفقيه قابلاً للأخذ والردّ، فان سيرة رسول الله وممارسته الفعلية لإدارة المجتمع الإسلامي الأول، تقدم الصورة الصحيحة الواضحة التي لا لبس فيها عن رؤية الإسلام ومنهجه في السياسة والحكم.

ولا أدري لماذا يستغرق البعض في الاهتمام بقضايا جانبية من السيرة النبوية، ويتغافل عن النهج السياسي والاجتماعي الذي اعتمده الرسول في إدارة الأمة وتسيير شؤونها؟

إن القراءة الواعية للسيرة النبوية الشريفة في هذا السياق يمكنها أن تساعد الأمة في تجاوز آثار تاريخ الاستبداد، وفي مواجهة الآراء المحافظة المتزمتة، كما تؤصل لتوجهات الإصلاح والتطوير.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، برحمتك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.

[i] الشرق الأوسط: جريدة يومية تصدر من لندن، 15/6/2004م.

[ii] الموسوعة العربية العالمية، ج11 ص258، الطبعة الثانية.

[iii] الكيالي: عبدالوهاب، موسوعة السياسة، ج1 ص174، الطبعة الثانية 1985م.