التعبير عن الرأي وثقافة الصمت

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين .. صلى الله عليك يا رسول الله وعلى آل بيتك الطاهرين المعصومين، صلى الله عليك يا مولانا يا سيد الشهداء ورمز التضحية والفداء يا أبا عبدالله الحسين، وعلى أنصارك المجاهدين بين يديك ياليتنا نهتدي بهداكم ونسير على دربكم فنفوز والله فوزا عظيما…

قال سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (لا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي فإن من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقولة بحق أو مشورة بعدل).
حديثنا هذه الليلة إن شاء الله تحت عنوان : التعبير عن الرأي وثقافة الصمت.

ويشتمل على ثلاثة محاور:

المحور الأول: التعبير عن الرأي ودوره في حياة الفرد والمجتمع.

المحور الثاني: موانع التعبير عن الرأي.

المحور الثالث: تربية الإسلام في التعبير عن الرأي.


المحور الأول: التعبير عن الرأي ودوره في ثقافة الفرد والمجتمع.


الإنسان ككائن مفكر منحه الله عقلاً ومنحه قدرة على التفكير وككائن له مشاعر وأحاسيس، تجيش في نفسه المشاعر والأحاسيس والتصورات كما تنبثق في ذهنه الآراء والأفكار، تارة يعبر عما لديه وعما في داخله الفكري من آراء أو داخله النفسي من أحاسيس ومشاعر، وتارة أخرى يكتم مشاعره ويخفي آراءه وأفكاره ولا يجهر بها لا يتحدث عنها.

الحالة السليمة السوية أن يعبر الإنسان عن آرائه وأن يظهر مشاعره وأحاسيسه، أما حالة الكبت وحالة الإخفاء فهي حالة غير طبيعية، حالة استثنائية.

ما هي آثار التعبير عن الرأي والمشاعر في حياة الإنسان؟:

أولاً: تحرك وتنمي فكر الإنسان.

لأن الفكر كالجسم إذا تحرك يزداد نشاطاً ويزداد فاعلية أما إذا جمد و ركد فإن قدراته لا تنمو، كما أن الإنسان الذي يجلس ولا يتحرك يترهل جسمه تضعف عظامه لا تنمو عضلاته ، بينما إذا مارس الرياضة إذا تحرك يصبح جسمه أقوى يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (من يعمل يزدد قوة) الحركة تقوي الإنسان وهذا أمر بدهي واضح،في الجانب الجسمي و في الجانب الفكري، الإنسان الذي يفكر ويطرح رأيه، طرحه للرأي يستتبع أيضاً رداً على رأي ومناقشة الرأي فيتقوى رأيه وتتقوى قدرة الإنسان على التفكير .

ثانياً: من الناحية النفسية.

يزداد ثقة بنفسه، تتأكد شخصيته وعلماء النفس يقولون: إن الإنسان السوي هو الذي يعبر عن آرائه ومشاعره، بينما كبيت الآراء والمشاعر تكون له مضاعفات. الإنسان الذي يكون مكبوتًا دائماً يصاب بالكآبة ويصاب بالحزن تصيبه حالة إحباط وتصيبه حالة نفسية، بينما الذي يعبر عن آرائه ويعبر عن مشاعره تكون صحته النفسية أيضاً أفضل وأحسن.

ثالثاً : تظهر كفاءة الإنسان.

كفاءة الإنسان تظهر من خلال تعبيره عن رأيه وهو يتأكد أيضاً من صحة آرائه.
إذا كان لدي رأي قد يكون رأيي خاطئ إذا انطويت عليه ولم أطرحه أمام الآخرين لا ينكشف لي خطأ رأيي، بينما إذا أبديت رأيي يأتي من يناقشني، و يعترض عليَّ ، هذا يمكنني من تصحيح رأيي.

وإذا كان الرأي صحيحاً وجيداً هذا يظهر كفاءة صاحبه، ولذلك ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (تكلموا تعرفوا فالمرء مخبوء تحت طي لسانه) ترى إنساناً يوحي لك منظره بأنه مهم فإذا تكلم لا ترى أن فكره في مستوى مظهره، وإنسان آخر بالعكس مظهره لا يوحي لك بأنه إنسان مهم لكنه حينما يتحدث ويطرح رأياً جيداً وفكرة جيدة ومعلومة قيمة يكبر في عينك وتتبين لك شخصيته.

إذن تعبير الإنسان عن رأيه هو الذي يظهر كفاءته ويظهر مستواه أمام الناس وأمام الآخرين.

نقل عن أبي الهذيل العلاف قال: كان يرتاد مجلسي –كان لديه مجلس يجتمع عنده الأدباء والحكماء والمثقفين- فتى وقور منظره وشكله وهندامه يوحي بأنه إنسان ينطوي على شيء من المعرفة والفهم والوعي، لكنه غالباً لم يكن يتحدث، يسكت ويستمع الكلام ولا يتحدث.

حاولنا أكثر من مرة أن نستدرجه للكلام هو يتمنع، يقول: أنا استفيد من كلامكم الصمت خير.

في يوم من الأيام ألحينا عليه نريد أن نستفيد فقل لنا شيء قال: إما إذا أصررتم فسأقول لكم حكماً هامة أرجوا أن تفهموها وأن تحفظوها، قال ففتحنا آذاننا وأعييننا فقال حدثني أبي عن جدي عن حكماء في سالف الزمان أنهم قالوا : ليس الجائع كالشبعان وليس المكسو كالعريان وليس النائم كاليقظان ثم صمت، فنظر بعضنا إلى بعض وقلنا لقد انخدعنا بالرجل فسقط من أعيننا بكلامه.

إذن تعبير الإنسان عن رأيه هو الذي يظهر كفاءته ومستواه، هذا على الصعيد الشخصي، أما على المستوى الاجتماعي فواضح أن المجتمعات التي يعبر فيها الأفراد عن آرائهم في مختلف الميادين: سياسياً دينياً فكرياً علمياً، هذا المجتمع تكون حركته العلمية أقوى، إمكانية تقدمه تكون أفضل .

من سمات المجتمعات المتقدمة حرية التعبير عن الرأي، كلما كانت حرية التعبير عن الرأي أفضل وأوسع شق المجتمع طريقه إلى الأمام. لأن الآراء تتبلور وتتكامل، أصحاب الرأي يطرحون آراءهم ويجتهدون في طرح أفكارهم، فيتقدم المجتمع، ومن هنا نجد اهتمام المجتمعات المتقدمة بتشجيع حرية التعبير عن الرأي، سواء في الجامعات أو وسائل الإعلام، بل يبتكرون مختلف الأساليب والوسائل لتشجيع الناس على أن يعبروا عن آرائهم، على المستوى السياسي بالانتخابات، بالاستفتاءات العامة، صناديق الاقتراع. على المستوى العلمي حرية العلم والمعرفة، على المستوى الإعلامي، على المستوى الثقافي، على مختلف المستويات..

وهناك منظمات للدفاع عن حرية التعبير عن الرأي، جوائز ترصد للتشجيع على هذه الحالة، وسائل الإعلام أيضاً تشجع، مقابلات، أسئلة، اتصالات، ومع هذا التقدم التكنولوجي العلمي اتيحت الفرص أمام الناس حتى يعبروا عن آرائهم بحرية وبطلاقة هذا كله يشجع هذه الحالة، كما توجد مراكز لرصد حركة الرأي، وبين فترة وأخرى تظهر استبيانات حول مختلف القضايا والمسائل، واستطلاعات لآراء الناس، هذا كله للتشجيع على حرية الرأي وعلى حرية التعبير عن الرأي، بينما في المجتمعات المتخلفة الأمر على العكس من ذلك تماماً ولذلك تبقى متخلفة فلا تتقدم، لانعدام وضعف حرية التعبير عن الرأي.

المحور الثاني: موانع التعبير عن الرأي.


نركز على الموانع الاجتماعية والثقافية، وهناك عوامل سياسية لا نطيل الوقوف عندها .

1.ضعف الشخصية.

إذا كان الإنسان ضعيف الشخصية لا يتجرأ أن يعبر عن رأيه، ويخشى أن يكون رأيه غير صحيح.. أو غير مقبول، يتوقع أن يسبب له مشكلة، ولذلك يتوقف عن التعبير عن رأيه بسبب ضعف شخصيته، في كثير من الأحيان يدور حديث في مجلس فيسأل شخص أو تتاح له الفرصة لإبداء رأيه، وتكون لديه فكرة لكنه لا يبوح بها، فيأتي شخص آخر فيذكرها فيقول الرجل الأول: إنها كانت في باله لكنه لم يقلها. بعض الأحيان يطرح أستاذ على الطلاب في الفصل مسألة: ما هو جواب السؤال الفلاني، بعض الطلاب يحس أن لديه جواب لكنه يخاف أن يكون جوابه غير صحيح فلا يبادر بالإجابة فيقوم آخر فيجيب، فيقول له الأستاذ: صح أحسنت، فيقوم ذلك الطالب فيقول يا أستاذ أنا أيضاً فكرت هكذا. ضعيف الشخصية لا يبادر بطرح رأيه، لكن قوي الشخصية يبادر ويطرح رأيه بكل جرأة.

إعرابي ينتقد الخليفة

في هذا السياق ينقل التاريخ أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي في دمشق خرج يوماً من الأيام مع بعض جنوده إلى الصحراء ثم انقطع عن جنوده، ابتعد عنهم وهم ابتعدوا عنه فرأى أعرابياً فأراد أن يأنس بحديثه اقترب منه وسلم عليه قال أتعرف عبد الملك بن مروان؟ قال الأعرابي : نعم ذاك والله الجائر البائر.

قال له: أنا عبد الملك بن مروان!!
قال: لا حياك ولا بياك ولا قربك أضعت حرمة الله وبددت أموال الناس.
قال له: ألا تعلم أني أضر وأنفع.
قال: لا رزقني الله نفعك وكفاني الله ضرك.
ومشى معه وبعد قليل بانت العساكر فلما اقتربوا من العسكر التفت الأعرابي إلى الخليفة عبد الملك قال: يا أمير المؤمنين اكتم ما قلت لك فإن المجالس بالأمانات.
فأعجب عبد الملك بجرأته وشجاعته.

وقالوا أيضاً : إن الحجاج بن يوسف الثقفي حصلت له حادثة مشابهة في الصحراء، التقى مع شيخ قال له الحجاج: ما رأيك في الولاة في منطقتك؟ قال: إنهم ظلمة، لصوص ينهبون أموال الناس ويجورون على حقوقهم، قال: فما رأيك بالحجاج؟ قال: قبحه الله إنه شر وال ولي في هذه الأمة قبحه الله وقبح من نصبه على الناس!!
وإذا به يقول: أتعرفني من أنا؟
قال: لا.
قال: أنا الحجاج.
فقال الشيخ: أيها الأمير وتعرفني من أنا؟
قال: لا.
قال: أنا مجنون هذه القرية... حتى يدفع عن نفسه مسؤولية كلامه فأعجب به.
إذن قد يكون الإنسان عالماً، لديه علم ومعرفة لكنه ضعيف الشخصية ولا يطرح رأيه. فضعف الشخصية مانع من موانع التعبير عن الرأي.

2.المانع الثاني: التربية القمعية.

العائلة في بعض الأحيان تربي الطفل على قوة الشخصية وعلى أن يجهر برأيه ويظهر أحاسيسه ومشاعره وفي أحيان أخرى وهذه هي الحالة الغالبة في المجتمعات المتخلفة تكون التربية قمعية، الطفل يكون مقموع، ليس لديه جرأة في الحديث عن رأيه وهذا ما يسبب مشاكل كثيرة. الآن كثير من الشباب والفتيات تواجههم في حياتهم مشاكل، لكن ليس عندهم الجرأة في التحدث عن مشاكلهم مع العائلة فيبحثون عن أناس خارج العائلة ليتحدثوا معهم عن مشاكلهم، خاصة مع توفر الإنترنت  نجد كثيرًا من الشباب وأكثر من الفتيات وقد قرأت الكثير من القصص وأُخبرت بالكثير من الأحداث أن هذا كان باب من أبواب وقوع الشباب ووقوع الفتيات في مزالق الشر، الفتاة تعيش مشاكل عاطفية حياتية لكن تخجل وتخاف ولا تستطيع أن تحكي مع أمها بصراحة ووضوح ولا تتحدث مع أبيها بصراحة ووضوح، على الإنترنت ترتبط مع أحد فتتحدث معه عن مشاكلها وقضاياها فتحصل على نوع من التعاطف وتحصل على نوع من التجاوب وهذه مشكلة كبيرة، يُفترض أن العائلة تعطي فرصة للأبناء أن يتحدثوا بصراحة وجرأة وأن يعبروا عن آرائهم وهذا لا ينافي الاحترام، هذا حياء مفرط أو مذموم، الحياء في حده مقبول أما إذا تجاوز عن الحد فيكون حياءًا مذمومًا، فينبغي أن تتاح الفرصة للأبناء ليعبروا عن آرائهم. 

أحد المؤمنين كان يقيم في لندن وأراد أن يشتري شقة، قرأ إعلاناً عن شقة أو بيت معروض للبيع فاتصل يسأل عن العرض فاستمهله صاحب الشقة وأراد مهلة لعدة أيام، فقال الرجل: لماذا أليست الشقة معروضة للبيع، قال: بلى لكن لدينا طفلين ولم نهيئهما نفسياً للخروج من المنزل، نحتاج إلى وقت للناقش معهم ونقنعهم أننا سننتقل إلى مكان أفضل، أما إذا أتيت ورأوك أنك ستشتري المنزل فسيسبب لهم جرح في مشاعرهم وصدمة لنفوسهم.

التربية القمعية هي التي تجعل الإنسان يكبر وهو لا يتجرأ أن يعبر عن رأيه، لا يستطيع التعبير عن رأيه أمام والده، وكذلك في المدرسة وفي المجتمع، لذلك يتربى الإنسان عندنا وهو مقموع الشخصية، منذ ولادته وطوال مدة حياته حتى مماته.

3.المانع الثالث: هو ثقافة الصمت.

ففي بعض الأحيان تسود في المجتمع حالة تقنع الفرد بأن الصمت أفضل وأحسن. والشعراء قالوا في هذا أشعاراً بعضها للتهكم وبعضها للحكم فمن النوع الأول يقول أحد الشعراء:

يا قوم لا تتكلموا
ناموا و لا تستيقظوا
إن الكلام محرّمُ
ما فاز إلا النوّمُ


وآخر يقول: مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام.

كذلك هناك أحاديث ونصوص واردة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الأئمة الطاهرين عليهم السلام وعن بعض الصحابة والأولياء والعلماء، تشجع على الصمت (من صمت نجا) (في الصمت السلامة) هنا ينبغي أن نفهم ماذا تعني هذه النصوص فالصمت هنا ليس في مقابل الكلام المناسب بل الصمت في مقابل الكلام الضار، سئل الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: أيهما خير الكلام أم السكوت؟ قال: (إن لكل منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام خير من السكوت، إن الله تعالى ما بعث أنبياءه إلا بالكلام وليس بالسكوت وإن الجنة لا تستحق إلا بالكلام وليس بالسكوت).

فالروايات والأحاديث التي تأمر بالصمت إنما تأمر به في مقابل الكلام السيئ، وكأنه في الجاهلية كان غالب كلام الناس مفاخرة وتباه وما أشبه ضمن الثقافة الموجودة عند العرب، فلما جاء الإسلام أراد أن يوجه الإنسان لكلام أنفع ولذلك فالأحاديث التي تأمر بالصمت إنما هي في مقابل الكلام السيئ أم الكلام الحسن فلا، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: ( إن الصمت عن الفتن عي، وإن الصمت على الجهل خطأ) أن الله تعالى يقول (فسألوا أهل الذكر)، لكن في مجتمعاتنا سادت ثقافة الصمت لذلك فهي تخيف الإنسان من الحديث وخاصة الشباب الذين يتعرضون للنهي عن الكلام بسبب الثقافة الموجودة في المجتمع، إذن ثقافة الصمت مانع من موانع التعبير عن الرأي.

4.المانع الرابع: الاستبداد السياسي.

حيث منيت الأمة في السابق بحكام، وبعض المناطق في تاريخها الحاضر، وهؤلاء الحكام لا يعطون الفرصة للكلام، والإنسان يخاف على نفسه لأن كلامه يمكن أن يفسر بأي تفسير، وقد ألف أحد المؤلفين موسوعة بعنوان (موسوعة العذاب) يرصد فيها حالات التعذيب والتنكيل التي كانت تمارسها الحكومات السابقة على الشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية، وفيها فصل كامل بعنوان (التعذيب يشل اللسان) يقول فيه المؤلف: كان أول من بدأ بقطع اللسان هو زياد بن أبيه على الصحابي الجليل رشيد الهجري ثم توالت هذه الحالة ثم يشير إلى ما عمله المتوكل مع ابن السكيت الكوفي النحوي، حيث أراد المتوكل أفضل نحوي لتدريس أبنائه فلم يجد أفضل من ابن السكيت فأحضره وبعد مدة سأل المتوكل ابن السكيت أيهما أفضل ولداي أم الحسن والحسين فأجاب ابن السكيت: والله لحذاء قنبر مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير من ولديك ومن أبيهما فغضب المتوكل وأمر بقطع لسانه ثم قتله، ثم توالت هذه السياسة في التاريخ حتى أن صدام أمر بعقوبة قطع الأطراف حتى شاعره أبو يعرب الذي مدح صدام بقصائد عديدة وكثيرة منها قوله:

لولاك ما بزغ القمر
لولاك ما طلع الشجر
لولاك ما نزل المطر
لولاك يا صدام ما خلق البشر


وفي إحدى المرات اختلف مع صدام فأمر صدام بقطع لسانه ثم مات بعدها.
هذه الحالة هي من موانع التعبير عن الرأي، لكن الموضوع الأكثر الذي نريد التركيز عليه هو:

5.المانع الخامس:الإرهاب الفكري الاجتماعي.

حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي تعني أن ينطلق العالم أو المفكر لكي يطرح رأيه، وميزتها أنها تعطي رأياً لتصحيح خطأ قائم أو لتصويب فكرة موجودة قائمة أما إذا أردنا أن المفكر والعالم يتحدث في حدود الشيء الموجود، أي أفكار موجودة وقائمة يكون الحق أن نتحدث ضمن هذه الحدود وهذا لا فائدة منه لأن الكلام سيتكرر ويعاد، إنما تفيدنا حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي من أجل أن نطور ما هو قائم وموجود، فالمجتمعات المتقدمة دائماً تشجع الإبداع والرأي العلمي والفكري الجديد ـ طبعاً ـ مع أدلته وضوابطه، فكل شيء ضمن منطقه العلمي الخاص بحقله وميدانه. 

أما المجتمعات المتخلفة فترفض هذا التوجه فيجب أن يكون رأيك وفق الرأي السائد، في العصور الوسطى في أوروبا كانت الفكرة السائدة حول الأرض أنها مركز المجموعة الشمسية وأنها لا تتحرك وأنها لا تدور، فلما قال بعض العلماء رأياً آخر حكمت عليهم الكنيسة بالإعدام لأنهم طرحوا رأياً يخالف الرأي الموجود وهذا هو مكمن الخطر، حيث يفترض أن تكون هناك حرية فكر وحرية تعبير عن الرأي، حتى ولو كان الرأي المطروح يصطدم مع رأي قائم وموجود، قد يكون هذا الرأي الذي يُنظر إليه بأنه يخالف المألوف هو الرأي الأصح والأصوب، وكم من آراء عندنا في مختلف المجالات من علمية وفقهية وسياسية واجتماعية قد تغيرت إلى آراء كانت مرفوضة، في علم الفقه كانت هذه الحالة وفي العلوم المختلفة هذه الحالة موجودة، وهذا يعني أن يفتح المجال لحرية الفكر وحرية العلم والمعرفة ولحرية التعبير عن الرأي، لكن في المجتمعات المتخلفة هذه الحالة مفقودة، ولذلك يصبح هذا من موانع التعبير عن الرأي، وكم من علماء قدموا حياتهم وشخصياتهم ثمناً لجرأتهم في التعبير عن أراءهم. في التاريخ عندنا أحد العلماء الكبار محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير المعروف جامع البيان في تأويل آي القرآن وصاحب التاريخ المعروف تاريخ الأمم والملوك وصاحب الكتب الفقهية والعلمية الكثيرة كان من كبار العلماء في عصره بل من كبار العلماء في العصور الإسلامية، محدث ومؤرخ ومفسر للقرآن مقرئ نحوي لغوي، تجمعت فيه علوم كثيرة توفي سنة 310هـ كانت لديه آراء تخالف الآراء السائدة في مجتمعه، وكان له مذهبه الخاص، في البداية كان ضمن المذهب الشافعي ثم اجتهد وأصبح له مذهب خاص وكان حرياً به أن يكون له مذهب باسمه لكن نشأة المذاهب كانت لها عوامل لم تساعد الطبري آنذاك، عاش في بغداد وكان الجو السائد هو المذهب الحنبلي وكانت لهذا المذهب بعض الآراء التي كان يخالفها الطبري ويتحدث بها كما كان يتحدث عن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد سمع عمن ينكرون حديث غدير خم فألف كتاباً حول إثبات هذا الحديث وحول فضائل أمير المؤمنين عليه السلام فاتهم بالتشيع، وفي يوم من الأيام كان على المنبر يخطب على مجموعة من الطلاب يكتبون ما يقول وكانت لديهم محابرهم فسئل الطبري عن حديث لدى الحنابلة يسمى بحديث الجلوس على العرش أن النبي سيجلسه الله على عرشه وهذا فيه نوع من التحديد والتجسيد، فسئل الطبري عن رأيه في حديث الجلوس فقال: هذا محال ثم أنشأ:

سبحان من ليس له أنيس
وليس له في عرشه جليس


فغضب الطلاب ورموه بمحابرهم فنزل هارباً من على المنبر فلحقوه إلى البيت وصاروا يرمون داره بالحجارة حتى اجتمع من الحجارة على باب داره كالتل وما أنقذه إلى رئيس الشرطة ورجاله جاؤوا إليه وحموه، ويروى أنه حينما مات دفن ليلاً خوفاً على جنازته.

الحافظ النسائي وكتابه أحد الصحاح الستة وهو محدث مشهور وكتابه صحيح النسائي المشهور.

جاء إلى دمشق ويقول رأيت في الشام أن الناس يجهلون فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فصار يحدث بفضائل الإمام علي وألف كتابه المشهور خصائص الإمام علي وهو مطبوع عدة طبعات.

في يوم من الأيام قالوا له أنت تحدثت عن فضائل علي فحدثنا عن فضائل معاوية من حديث رسول الله ( ص ) فقال لهم الحقيقة وقال: والله لا أحفظ في فضله إلا حديثًا واحدًا وهو دعاء رسول الله عليه (لا أشبع الله بطنه) فتدافعوا عليه ورفسوه بأرجلهم فأصيب في خصيتيه وحمل من المسجد ثم غادر إلى مكة ومات في مكة بعد تلك الحادثة ورمي بالتشيع أيضاً.

وهذه الحالة كما هي موجودة عند السنة توجد عند الشيعة، فالشيعة في بعض الأحيان تحدث عندهم حالة من الإرهاب الفكري فإذا طرح أحد رأياً يخالف المشهور يواجه بمثل هذه الحالة وفي تاريخنا أيضاً كثير من هذه الحالات حتى أن الشهيد المطهري رحمة الله عليه ينقل عن المرجع الكبير السيد البروجردي رحمة الله عليه أننا في بعض الأحيان نحتاج إلى استخدام التقية من عوامنا وليس من الأعداء وهذه حالة عامة عاشتها المجتمعات الإسلامية ولا تزال تعيشها في مواقع وأماكن كثيرة.

الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي المعروف قال في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 30/1/2001م : أنا أعرف كثيراً من العلماء ينطوون على آرائهم في صدورهم ولا يبوحون بها خوفاً من رأي الناس، وينقل عن الشيخ محمد أبو زهرة هذا العالم المصري المعروف يقول: أنا سمعت من الشيخ أبو زهرة في أحد المؤتمرات يقول عندي رأي منذ عشرين سنة وأنا خائف أن أقوله لكن سأتوكل على الله وسأقوله في هذا المؤتمر، وهو مثال على عالم خائف من طرح رأيه وهذا سببه إرهاب فكري وإرهاب اجتماعي.

فالإرهاب الفكري من موانع التعبير عن الرأي، الرأي يواجه بالرأي وما كل رأي جديد يُطرح هو صحيح ولا هو خطأ فليناقش وليرد عليه وليكون هناك حوار حوله ورد علمي ومنطقي وثقافي عليه وليس بالإرهاب والقمع. 

المحور الثالث: تربية الإسلام في التعبير عن الرأي.


الإسلام دين يستنهض فكر الإنسان، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه حينما يتحدث عن هدف بعثة الأنبياء يقول: (وليثيروا للناس دفائن العقول) ولذلك آيات القرآن الكريم (أفلا يتدبرون) (أفلا يتفكرون) (لعلهم يتفكرون) (لعلهم يعقلون) لهذا من الطبيعي أن الإسلام يشجع وينمي ويربي على حرية التعبير عن الرأي، رسول الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله على عظمته ومكانته هو نبي الأمة وقائدها، لكنه كان يشجع الناس على أن يطرحوا آراءهم.

جاء إعرابي يوماً ووقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وصار يرتجف، النبي صلى الله عليه وآله التفت وقال له: (هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة) ولذلك كان البعض يعترضون على رسول الله صلى الله عليه وآله ويناقشونه.

والقرآن يخلد قصة امرأة للتشجيع على الحوار وإبداء الرأي، ويقدمها كنموذج للمسلمين جميعاً: ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما، وهي سورة المجادَلة أو المجادِلة، جاءت تجادل النبي. الإنسان المسلم عنده ثقة بنفسه ويطرح رأيه ويعبر عن رأيه والنبي أيضاً عنده صدر واسع ويستقبل الرأي.

في أحد المواقف جاء رجل وقال يا محمد أعطني فإن المال ليس من مالك ولا من مال أبيك، فغضب بعض الأصحاب، النبي صلى الله عليه وآله قال: دعوه فإن لصاحب الحاجة مقال. وكذلك كان أمير المؤمنين سلام الله عليه الذي تبركنا بكلامه في بداية الحديث يقول عليه السلام: (لا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، أو التماس لإعظام نفسي فإن من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقولة بحق أو مشورة بعدل) وهو كان الخليفة وهو إمام معصوم وهو أعلم الناس وهو من نعرف مكانته وعلمه لكنه يحرك أفكار الناس ويحثهم على القول والتعبير عن آرائهم، فهل يصح لأي شخص آخر حاكماً كان أو عالما أن يمنع التعبير عن الرأي.

بعض الأحيان تكون للعالم هيبة تمنع الناس من أن يناقشوه ولذلك نحن نعاني في مجتمعاتنا من حالة عدم الانفتاح بين كثير من العلماء وأبناء المجتمع، لماذا؟ لأن الناس لا يجدون في أنفسهم الجرأة ليأخذوا ويعطوا ويناقشوا ويحكوا من الهيبة، وفي بعض الأحيان العالم لا يفتح مجال للناس للتعبير، ورد في الحديث (لا تكونوا علماء جبابرة فيذهب قهركم بعلمكم) فالعالم يجب أن يكون عنده علم معه حلم فيجب أن يكون عنده سعة صدر يسمع من الناس ويتقبل انتقادهم وبهذا يكسب ثقتهم وبهذا يشد إليه نفوسهم.

أمير المؤمنين عليه السلام يشجع الناس على أن يقولوا ما عندهم من آراء وهذا ليس مجرد كلام، عملياً كان أمير المؤمنين عليه السلام يمارس هذه الحالة، اقرؤوا سيرة أمير المؤمنين كان يخطب على المنبر فقام رجل من الخوارج قال له: لا حكم إلا لله، فسكت الإمام، فقام رجل آخر وقال: لاحكم إلا لله، وقام الثالث فقال: لا حكم إلا لله، التفت الإمام عليه السلام لما رآهم تكاثروا قال عليه السلام: (كلمة حق يراد بها باطل، لكم علينا أن لا نمنعكم دخول مساجد الله أن تذكروا فيها اسم، ولا نمنع عنكم فيئكم ما دامت أيديكم في أيدينا، ولا نقاتلكم ما لم تبدأونا بقتال) وعاد إلى خطبته كأن لم يكن شيء. لم يأمر بسجنهم ولا باعتقالهم ولا زجرهم ولا غضب عليهم بل بالعكس تحدث عن حقوقهم أرأيت حاكماً يتبرع بإعطاء ضمانات لمعارضيه ولمن يحتج عليه.

الخريت بن راشد الناجي جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام ومعه ثلاثون من أتباعه وقف بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام وقال: يا علي لا صليت خلفك ولا أطعت أمرك وإني غداً مخالفك. قال الإمام: ولم، قال: لأنك حكمت في كتاب الله بعد واقعة التحكيم، فقال الإمام: هلم وناظرني في كتاب الله وسنة رسوله لعل حقاً خافياً عليك أوضحه لك. قال إني منصرف الآن لشغلي وآتيك غداً.
قال: انطلق على رسلك.
بعض أصحاب الإمام قالوا: يا أمير المؤمنين كيف تتركه؟!!
قال: وما أفعل به؟
قالوا: قد يتآمر عليك فاسجنه.
قال: لو كنا نسجن كل من نتهمه لما وسعت السجون.
ولهذا نحن نحب الإمام علي عليه السلام لعدله وقسطه وأخلاقه.

وفي قصة رائعة جميلة جداً بعد واقعة النهروان رجل يقال له العيزار الطائي مر بجماعة من أنصار أمير المؤمنين عليه السلام فكان يبشر برأي الخوارج وينال من علي عليه السلام فألقوا عليه القبض وجاءوا به للإمام علي وقالوا له يا أمير المؤمنين هذا ينشر رأي الخوارج وينال منك، قال: وما أصنع به؟
قالوا: تقتله يا أمير المؤمنين.
قال: كيف أقتله ولم يشهر سلاحاً ولم يعتد!!
قالوا: فاسجنه يا أمير المؤمنين.
قال: كيف أسجنه ولم يبدر منه شيء؟!
قالوا: إذن ما نصنع به يا أمير المؤمنين؟
قال: اتركوه لحال سبيله.

هذه هي الطريقة السليمة وهذا هو منهج الإسلام في التربية على حرية التعبير عن الرأي حتى في الدعاء، في دعاء كميل نحن نقرأ منه فقرات تربينا على المطالبة بحق التعبير عن الرأي حتى يوم القيامة إذا لا سمح الله دخلنا النار ولذلك في الدعاء نقول (فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقا لئن تركتني فيها ناطقا لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين).

والله تعالى يقول عن مواقف يوم القيام: ﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها.
سيدنا ومولانا الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه نموذج للتربية الإسلامية والتربية النبوية، التاريخ ينقل لنا بعض المشاهد والمواقف، في خلافة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يقول التاريخ وهذا موجود في الإصابة كان الخليفة عمر يخطب على المنبر فجاء الحسين يعدو وهو لا يزال في مقتبل العمر حتى صعد المنبر قال: يا عمر انزل من على منبر أبي واذهب على منبر أبيك. أخذه عمر وأجلسه إلى جانبه وقال صدقت ليس لأبي منبر ولكن من علمك هذا؟ قال: والله لم يعلمني بذلك أحد.

الإمام الحسين تربية رسول الله وتربية علي وتربية فاطمة لذلك شخصيته كانت نموذج في البطولة والجرأة وفي قوة الشخصية ولذلك كانت هذه الثورة العظيمة العملاقة ناتجة عن هذه القوة وعن هذه التربية الخاصة النبوية التي تلقاها الحسين الذي قال فيه جده رسول الله صلى الله عليه وآله: (حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا) ولذلك عندما استدعاه والي المدينة الوليد بن عتبة وعرض عليه البيعة ليزيد بن معاوية، قال له: نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون ولا أرى أن يُكتفى ببيعة مثلي سرا، الوليد قال: انصرف راشداً يا أبا عبد الله، لكن مروان بن الحكم كان جالساً قال: لا تتركه يخرج فإن فاتك الثعلب لا ترى إلا غبارا. فغضب الإمام الحسين وقال: أأنت يا بن الزرقاء تأمر بقتلي من يأمر بقتلي أنت أم هو؟. ثم قال عليه السلام قولته المشهورة: (أنا من أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ويزيد رجل فاسق معلن بالفسق شارب الخمور، قاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله) وخرج مصمماً على موقفه البطولي صلوات الله وسلامه عليه.

الحوزة الزينبية - سوريا، 4 محرم 1425هـ