تجربة في البناء والتغيير، الإمام الصدر نموذجاً

الشيخ الصفار يُثمّن الدور التغييري للإمام الصدر في لبنان

مكتب الشيخ حسن الصفار القطيف: تركي العجيان

ثمّن سماحة الشيخ حسن الصفار الدور التغييري الذي حققه الإمام موسى الصدر في لبنان، مشيداً بوعيه الرصين، ودوره القيادي بالنهوض بشعبٍ كان يعيش الحرمان والضعف في معظم شؤون حياته، ليُصبح الشيعة في لبنان اليوم وجهاً بارزاً للتشيع على مستوى العالم. وأشاد من جانب آخر بوعي الشعب اللبناني الذي التف حول القيادة الصالحة، ولو لا ذلك لما تحقق للإمام موسى الصدر هذا الإنجاز الكبير.

واستعرض الشيخ الصفار صوراً من الأدوار التي قام بها الإمام موسى الصدر في لبنان، حيث تصدى للشأن العام الشيعي (السياسي، الاقتصادي، العلمي، الثقافي، الاجتماعي)، واستثمر وسائل الإعلام، وانفتح على الآخرين، كما انفتح سياسياً على الحكومة اللبنانية والحكومات العربية أيضاً، وبذلك استطاع أن يُقدم نموذجاً للبناء والتغير جدير بالدراسة والبحث وأخذ الدروس من هذه التجربة الرائدة.

وتضمن خطاب الشيخ الصفار ثلاثة محاور، كانت على النحو التالي:

المحور الأول: القراءة الواعية لتجارب الآخرين

أشار الشيخ الصفار في بداية خطابه لليلة الرابعة من موسم المحرم لعام 1430هـ (1 يناير 2009م) أن من ميزات الإنسان قدرته على مراكمة التجارب، والاستفادة منها، ولهذا تطورت حياة الإنسان في مختلف المجالات. فالإنسان يبني حياته من خلال تجارب من سبقه والاستفادة منها، ويتلقاها عن طريق التربية والبيئة والتعليم وغيرها، ولو أن كل إنسان يأتي للحياة ويبدأ حياته من الصفر لما اتسعت حياته لشيء، حيث يأتي الإنسان للدنيا لا يعلم شيئاً، يقول تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً.

مضيفاً: قيمة كل إنسان ومستواه يتحدد بقدرته على الاستفادة من تجارب الآخرين ممن سبقه، سواءً على المستوى الفردي أو الاجتماعي. ولذا جاء الأمر القرآني للناس بأن ينظروا إلى تجارب الآخرين والأمم، يقول تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج، 46).

ويؤكد القرآن الكريم على أن حياة المجتمعات فيها أنظمة ومعادلات تحكم التقدم، فليس عبثاً أن مجتمعاً يتقدم، وليس صدفة أن مجتمعاً يتخلف، يقول تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (الأحزاب، 62)، ولذا ينبغي دراسة الأسباب التي دعت لتقدم ذلك المجتمع، أو تخلف هذا المجتمع.

مشيراً أنه ليس شرطاً التوافق الفكري بينك وبين الآخرين الذين تقرأ تجاربهم، حتى وإن كانت تختلف معك في الدين، يقول رسول : ((اطلبوا العلم ولو في الصين))، ((الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها))، ويقول الإمام علي : ((العاقل من وعظته التجارب))، ويقول : ((في التجارب علمٌ مستأنف))، ويقول : ((رأس العقل حفظ التجارب))، ويقول : ((كفى بالتجارب مؤدباً)).

وأشار الشيخ الصفار أن النظر إلى تجارب الآخرين قد يكون فيه إفراطٌ وتفريط، فالبعض يكون لديهم تقليد أعمى أو الاستنساخ الكامل، وهو خطأٌ كبير، فلا يُمكن نقل تجربة بكل تفاصيلها إلى بيئة أخرى تختلف عنها. ومن ناحية ثانية فإن جعل بعض الفوارق مبرراً لعدم التفاعل مع التجارب الأخرى، فهو خطأٌُ آخر أيضاً.

مؤكداً أن كل تجربة لها جوهر ومضمون، والمطلوب الاستفادة من الجوهر والمضمون، وليس المحاكاة في الجزئيات والقضايا الجانبية.

فلابد من الاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى، وما أحوج مجتمعاتنا الإسلامية أن تستفيد من تجارب المجتمعات الأخرى في تقدمها العلمي والتكنولوجي والنظام العام، وتوفرها على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. ومطلوب أيضاً من المجتمعات الإسلامية الاستفادة من بعضها البعض، كالاستفادة من تجربة الماليزيين إذ حققوا تقدماً ملحوظاً في التنمية.

المحور الثاني: الحالة الشيعية في لبنان

أكد الشيخ الصفار أن تاريخ الشيعة في لبنان تاريخ عريق، ضارب الجذور، ويؤرخ له من منتصف القرن الأول للهجرة. وقد دخل التشيع إلى لبنان وبلاد الشام، مع أن الوضع في تلك المنطقة لا يخدم التشيع، لأنها كانت بيئة أموية لا تُساعد على انتشار التشيع، والقول المشهور في انتشار التشيع هناك أنه تحقق عبر الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه)، والذي قال في حقه رسول الله : ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء، على ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر))، وقال عنه حينما رآه يمشي وحده في الطريق إلى غزوة تبوك: ((كن أبا ذر. تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتُحشر يوم القيامة أمةً وحدك، وتدخل الجنة وحدك)).

وأشار أن أبا ذر حينما رأى أن هناك خللاً في إدارة بيت المال، ونفوذ بعض المقربين للخليفة عثمان، اعترض على ذلك، وجهر بذلك، فأمر الخليفة عثمان بإخراجه من المدينة، فنفاه إلى الشام، وكان واليها معاوية بن أبي سفيان، وهو معروف بحنكته الدبلوماسية من الإغراء بالمال وما شابه ذلك، فظن ذلك في أبي ذر، إلا أن ظنونه خابت. ومارس أبو ذر أيضاً اعتراضه على التصرفات المخالفة التي كان يُمارسها معاوية، وكان يكرر قراءة قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة، 34)، وكان ذلك لافتاً للناس، فانزعج معاوية، وكتب للخليفة عثمان: إن أبا ذر قد أوغل قلوب الناس في الشام علينا، فلا نتحمل وجوده عندنا. وأرجع بعدها للمدينة، ونفي مرةً أخرى للربذة، حتى توفي فيها سنة 32هـ.

خلاصةً فإن هذه المقولة ترى أن أبا ذر حينما نفي للشام، وتنقل بين مناطقها الجنوبية في جبل عامل، قام بنشر التشيع هناك.

واستعرض رأياً آخر حيث أن الباحثين المعاصرين يؤكدون أن هذا التفسير ليس دقيقاً، مطالبين بالبحث عن تفسير آخر. ومن هؤلاء الباحثين الشيخ جعفر المهاجر، وله كتاب عنوانه: التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان وسوريا. وهو كتابٌ جميل يتضمن دراسة علمية موثّقة، أثبت فيه أن انتشار التشيع في لبنان وبلاد الشام لم يكون عن طريق أبي ذر الغفار لأن المدة التي مكثها لا تُمكن من حصول هذا الانتشار للتشيع، واستطاع أن يُقدّم عدة شواهد على أن انتشار التشيع وبدايته في لبنان وسوريا كانت بسبب زحف قبيلة همدان، وهي قبيلة يمنية موالية لعلي بن أبي طالب ، ويُنسب للإمام علي فيهم قوله:

ولو كنت بواباً على باب جنةٍ لقلت  لهمدان  ادخلوا بسلامِ

متابعاً حديثه بالإشارة إلى أن بعض الهمدانيين كانوا يتواجدون في الكوفة، لأنها كانت ملتقى للجند، ويُقدّر الباحثون عددهم في تلك المرحلة بين (40 – 50) ألف شخص. إلا أنهم بعد مقتل الإمام علي ضاقت بهم الأمور في الكوفة، فانزاحوا إلى مختلف المناطق كأفراد وكجماعات، وعدد كبير منهم انتقل إلى بلاد الشام. ومع مرور الزمن أثروا في المحيط حولهم ومن ذلك انتشر التشيع في لبنان وبلاد الشام.

مشيراً أن التشيع انتشر في جميع مناطق لبنان، ممثلاً بطرابلس التي كانت إلى سنة 502هـ حاضرة للتشيع حتى أسقطها الصليبيون.

فالشيعة كانوا منتشرين بكثرة في لبنان إلا أن ضغوطاً كثيرة مورست ضدهم أيام العثمانيين والاستعمار الفرنسي، ومن مظاهر ذلك الفتوى التي أصدرها الشيخ نوح الحنفي بإباحة دماء الشيعة أيام العثمانيين، ولذلك قسم كبير من الشيعة تواروا واختفوا، وغيّر البعض مذهبهم أو دينهم، ورغم ذلك لا يزال الشيعة في لبنان يُشكلون غالبية قياساً إلى بقية الطوائف، حيث تضم لبنان الكثير من الطوائف وأبرزها (12) طائفة تُمثل الشيعة نسبة (40%) تقريباً من الشعب اللبناني.

وأضاف الشيخ الصفار أن للشيعة تاريخاً علمياً وثقافياً عريقاً، ولذلك فإن كبار علماء الشيعة كانوا من لبنان، صاحب اللمعة الدمشقية (الشهيد الأول) الشيخ محمد بن مكي العاملي (رحمة الله عليه) الذي استشهد سنة 778هـ، وكذلك (الشهيد الثاني) صاحب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، الذي استشهد سنة 966هـ. وأيضاً الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة، والشيخ البهائي.

فلبنان كانت حافلةً بالنشاط العلمي والثقافي والفكري والحركي طوال تاريخ التشيع في لبنان. حتى أن الحر العاملي في كتابه المشهور: أمل الآمل في تراجم علماء جبل عامل، قال: علماء الشيعة في لبنان يُشكّلون خمس علماء الشيعة في العالم، مع أن بلادهم لا تُساوي عُشر العشر من بلاد الشيعة.

ويُنقل في حياة الشهيد الثاني أنه في إحدى قرى جبل عامل، شارك في تشييع جنازة (70) مجتهداً.

وفي تاريخنا الحديث فإن الظهور الشيعي في لبنان هو أبرز ظهور للشيعة في العالم العربي، بعد ظهور المقاومة في لبنان والنصر الذي تحقق على يديها ضدّ العدوان الصهيوني، أصبح الشيعة في لبنان وجهاً بارزاً للتشيع على مستوى العالم.

وأكد أن ذلك يستوجب قراءة حالتهم ودراسة تجربتهم، فلا شك أنها تجربة متقدمة ومتطورة، ونالت الإعجاب والتقدير حتى أن مراكزاً للأبحاث والدراسات في الغرب أخذت تدرس هذه التجربة في مختلف أبعادها ومجالاتها.

متسائلاً: كيف أصبح وضع الشيعة في لبنان بهذا المستوى الذي هم عليه الآن؟ مجيباً على ذلك بالحديث عن الدور الريادي الذي قام الإمام موسى الصدر منذ اللحظة الأولى لاستقراره في لبنان.

المحور الثالث: دور الإمام موسى الصدر

أكد الشيخ الصفار أنه لا يُماري ولا يشك أحد في أن الانبعاث الجديد الذي تحقق في لبنان، إنما حصل على يد الإمام السيد موسى الصدر، الذي اختفى بعد زيارته إلى ليبيا سنة 1978م.

متحدثاً عن جانبٍ من نشأته وسيرته فالسيد موسى الصدر من أسرة علمية، وأبوه السيد صدر الدين الصدر كان يدرس في العراق، ومن العراق هاجر إلى قم (إيران) وكان إلى جانب الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم، ويُعد والده من المراجع البارزين. وفي سنة 1928م وُلد السيد موسى الصدر، وهو ابن عم الشهيد السيد محمد باقر الصدر.

وبعد أن أنهى السيد موسى الصدر الدراسة الأكاديمية للثانوية التحق بالحوزة العلمية في قم وبقي فيها قرابة عشر سنوات، ثم قرر أن يلتحق بالجامعة في طهران، فكان أول عمامة تدخل الجامعة. وكان تخصصه في قسم الحقوق الاقتصادية.

ويُعتبر أول شخصية دينية شيعية في العالم العربي يكون لها هذا البروز الثقافي والسياسي والاجتماعي، فحريٌّ بنا أن نقرأ سيرته وحركته وجهاده.

وبعد إنهائه للدراسة الحوزوية في قم، انتقل إلى النجف الأشرف وبقي هناك قرابة أربع سنوات، ورجع إلى قم، وكان له دورٌ في تأسيس النشاط الإسلامي الواعي في إيران، وأصدر مع مجموعة أول مجلة في الحوزة العلمية باسم (فكر الإسلام) رغم صعوبة هذا الموقف ضمن الفكر الحوزوي السائد آنذاك. وأنشأ أول مدرسة أهلية للمرحلة الابتدائية في قم، بالتعاون مع الشهيد الدكتور بهشتي.

في تلك الفترة كان السيد عبد الحسين شرف الدين يُقيم في لبنان، وهو من نفس أسرة آل الصدر، وبعد وفاته، طُلب من السيد موسى الصدر أن يأتي إلى لبنان ليقوم مقام السيد شرف الدين، وكان في بداية عقده الثالث، وكان ذا كفاءة عالية، وقال السيد جعفر شرف الدين في حقه لجمهور الشعب اللبناني: لقد رحل عنكم السيد عبد الحسين شرف الدين وهو يحمل على أكتافه 87 عاماً وعاد إليكم الآن وهو في 31 من العمر.

وأشار إلى بعض العناوين للأدوار التي قام بها السيد موسى الصدر في لبنان:

أولاً- التصدي للشأن العام الشيعي (السياسي، الاقتصادي، العلمي، الثقافي، الاجتماعي)

الشيعة كانوا يعيشون الحرمان رغم أنهم أكبر طائفة، وآلاف الشيعة لم يكونوا يملكون بطاقات هوية، لينالوا حقوقهم كعامة الشعب، وأيضاً مناطقهم كانت فقيرة ومستضعفة، وإلى الآن. وكانوا مهمّشين أيضاً سياسياً. ومن يملك منصباً سياسياً آنذاك كانوا إقطاعيين يهتمون بمصالحهم بعيداً عن وضع الطائفة التي يُمثلونها. وفوق ذلك كان الشيعة في جنوب لبنان يعانون من العدوان الإسرائيلي المتكرر،  فنزح عدد كبير منهم إلى بيروت واقاموا في اطرافها، فتكوّن حزام حول بيروت، وأطلق عليه (حزام البؤس).

وكان دور العلماء هناك يتركز على الدور الديني المحض، لكن السيد موسى الصدر رأى أن من واجبه أن ينهض بهذا المجتمع في مختلف الجوانب الحياتية السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية.

فعلى المستوى الثقافي بدأ ينشر الوعي الثقافي في صفوف الناس، عبر خطاباته ذات الوعي الحياتي. وكان يرى في دوره هذا أنه يسد الفراغ الذي تركه انشغال العلماء بالأمور الدينية والعقائدية الخاصة.

وعلى المستوى الاقتصادي كان يُشجع الناس على العمل والتجارة، وأسس الكلية المهنية بجبل عامل، لتخريج كفاءات مهنية فاعلة. وأسس معهداً للتمريض، وأنشأ مؤسسة لتعليم حياكة السجاد، وذلك كله بناءً على رؤيته بأن من أهم أسباب ضعف الشيعة هناك هو فقرهم الاقتصادي.

ثانياً- استثمار وسائل الإعلام

باعتبار أن لبنان بلد منفتح على الإعلام من إذاعات وقنوات تلفزيونية ووكالات أنباء، وكان نصيب علماء الدين من ذلك صفرياً لأنهم لم يكونوا متّجهين بهذا الاتجاه. بينما كان السيد موسى الصدر يرى أن الظهور في وسائل الإعلام يُحقق مكاسب كثيرة، منها: إثبات للوجود الشيعي، وإيصال الصوت الشيعي للآخرين، مستوحياً ذلك من وصية الإمام جعفر الصادق لتلميذه أبان بن تغلب حيث قال له: ((أجلس في المسجد وأفتي الناس، فإني أُحب أن يُرى في شيعتي مثلك)).

وكان الإمام موسى الصدر أول عالم دين في لبنان يستقبل الصحفيين وسائل الإعلام، ويعمل معهم علاقات إيجابية ويتواصل معهم، فاستفاد من هذه الفرصة بشكل كبير.

ثالثاً- الانفتاح على الآخرين

الشعب اللبناني يضم عدداً كبيراً من الطوائف فهناك مسيحيون، ودروز، وسنة، ومختلف الطوائف الأخرى. وفي غالباً كان العالم الشيعي يرى نفسه معنياً بأمور طائفته، أما بقية الأديان والطوائف فقد لا يرى نفسه معنياً بالتواصل معهم.

الإمام موسى الصدر انتهج نهجاً جديداً، فبدأ التواصل مع رؤساء الطوائف المختلفة، وهو أول عالم دين مسلم في لبنان، وقد يكون في العالم العربي، يدخل إلى الكنيسة. وكان يُلقي محاضرات في كنيسة (مار مارون) التاريخية في طرابلس. وفي بعض المرات كان يُدعى لإلقاء عظة الأحد. وهذا التحرك أوجد ضجةً كبرى ضده في لبنان وخارجها.

رابعاً- الانفتاح السياسي

حظي الإمام موسى الصدر بوعي سياسي، لذلك انفتح على الحكومة اللبنانية، إلا أنه كان يرى أن تحركه السياسي في لبنان قد يُفهم خطأً من الحكومات العربية فصنع علاقات إيجابية مع كثير من الحكومات العربية، فكانت له علاقة طيبة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، واتصال وثيق بالرئيس السوري حافظ الاسد، وجاء للملكة، وزار الكويت، ومختلف الدول العربية، لعمل علاقات جيدة مع حكوماتها. فكان أول عالم دين شيعي يخترق هذا الميدان، وأسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، والذي يُعتبر الآن كياناً شامخاً للطائفة الشيعية في لبنان. وفي عام 1975م أسس حركة أمل، ووقف إلى جانب القضية الفلسطينية من منطلق مبدئي كما هو موقف الشيعة الآن.

وكان باذلاً نفسه ومستعداً لتحمل كل شيء في سبيل هذه الرسالة التي كان يحملها على عاتقه، ولذلك امتلك القلوب، ويُشاد الآن بفكره ونهضته، بينما كان في حياته يعاني من كثير من المناوئين.

وأكد الشيخ الصفار أن العلماء المخلصين غالباً ما يواجهون سلباً، ولكن إخلاصهم ورؤيتهم المستقبلية تجعلهم يتحملون هذه المضاعفات، ويعتبرونها ثمناً طبيعياً يجب أن يدفعوه من أجل مصلحة الأهداف العليا التي يتحركون من أجلها.

ملفتاً النظر في ختام خطابه إلى أن الإمام موسى الصدر لو لم يجد مجتمعاً يتفاعل ويتجاوب معه، لما استطاع أن يُحقق ما حققه وأن يُنجز ما أنجزه، صحيح كان هناك مخالفون في الرأي من الزعامات السياسية والدينية، إلا أن الجمهور كان متفاعلاً مع نهضة الإمام موسى الصدر، وقد حضر من المواطنين المهرجانين الذين أقامهما في بعلبك وفي صور أكثر من 100 ألف مواطن في كل مهرجان. وهذا يدل على شعبية الإمام موسى الصدر من جهة، وعلى وعي الشعب اللبناني من جهةٍ أخرى، حيث استطاعوا أن يُميزوا القيادة التي تخدمهم لكي يلتفوا حولها ويتفاعلوا معها.