احتكار الجنة بين الطوائف الدينية

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: احتكار الجنة بين الطوائف الدينية

﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة، الآيتان: 111و112].

ثمّة نقاش في الفكر الديني متعلق بمصير غير المسلمين في الدار الآخرة، وما إذا كانت ترجى لهم النجاة والرحمة في تلك الدار. فهناك على مدى الزمن شخصيات كثيرة ظلت تحظى بالاحترام في مجتمعاتها، فيما حظيت شخصيات أخرى بالاحترام على المستوى البشري، إمّا لأنها قدمت خدمات جليلة للبشرية، أو لأنّها جسّدت في حياتها قيمًا نبيلة ومواقف مشرقة. من هنا يأتي السؤال فيما إذا كان يحقّ لنا أن نرجو لأمثال هذه الشخصيات الخير والرحمة في الآخرة أم لا؟ كما ينسحب السؤال نفسه على عامة الناس من غير المسلمين، هل سيحظون بالنجاة في الآخرة أم لا؟

غير المسلمين بين الجهل والعناد

والمتأمّل في مواقف وأصناف غير المسلمين، إزاء دين الإسلام الذي نعتقد أنه الحقّ، يجدهم ينقسمون إلى فريقين.

الفريق الأول هو الذي تبيّنت له أحقية الدين الإسلامي، بعد أن وصلته الدعوة، وتبين له أن هذا الدين هو الحقّ، وبذلك قامت عليه الحجة، غير أنه ظلّ على عناده وجحوده ورفضه الخضوع إلى الحقّ، وعليه فأتباع هذا الفريق ـ حسب المنظور الأوليّ ـ لا يُرجى لهم الخير والرحمة في الآخرة. علمًا بأن الله سبحانه هو من يقرّر مصائر البشر فهو خالقهم وحسيبهم، ولكن استنادًا إلى القيم والمبادئ والنظرة الموضوعية السليمة، يبقى الإنسان الذي يرفض الخضوع والانقياد للحقّ، بعد أن تبيّن له وقامت عليه الحجة، ممن لا يرجى له الخير ولا ترجى له الرحمة في الآخرة.

أما الفريق الثاني فهم ممن لم يتبيّن لهم الحقّ، ولم تصلهم الدعوة إلى الدين أو لربما وصلهم شيء من ذلك، لكنهم كانوا يعيشون في بيئة لا ينقدح معها في أذهانهم إمكانية أن يكون الدين الذي يعتقدونه دين ضلال وخطأ وباطل.

ذلك أن البيئة المحيطة بهؤلاء الناس، لا تجعلهم يلتفتون إلى احتمال أن يكون هناك دينٌ آخر أصحّ من دينهم، وبهذا المعنى لم تتضح الحقيقة لأتباع هذا الفريق، ولم تقم عليهم الحجة.

ويمكن إرجاع سبب موقف أتباع هذا الفريق، إمّا إلى القصور أو التقصير كما في المصطلح الديني، فالشخص القاصر هنا هو من لم تتوفر له فرصة التعرف على الحقّ، بسبب البيئة التي يعيش فيها، فهو بذلك ممن يرجى له الخير والرحمة في الآخرة. أما الشخص المقصّر، فهو ذاك الآخر الذي كان بإمكانه التعرف على الحقّ، وكانت قواه العقلية وحواسّه الوجدانية تشير له بإمكانية أن يكون الحقّ في اتجاه مختلف، غير الذي هو عليه، غير أنه قابل جميع ذلك بالتجاهل وقلة الاهتمام، فهذا ممن يوصف بالجاهل المقصّر، وهو بذلك ربما دخل ضمن أولئك الذين لا ترجى لهم الرحمة في الآخرة، نتيجة تعمّده حرمان نفسه من بلوغ الحقّ والوصول للخير.

معظم البشر ترجى لهم الرحمة

ويتضح مما سبق، أنّ غالبية الناس هم على الأرجح من القاصرين، أي غير المعاندين، وبذلك يرجى لهم الخير والرحمة في الدار الآخرة. وعلى ذلك يمكن القول إنّ كلّ إنسان كان يمتلك القابلية لقبول الحقّ، ولكن لسببٍ أو آخر لم يتبيّن له ذلك، فهذا ممن ترجى له النجاة. والمتأمّل في الآية الكريمة الواردة عن مزاعم اليهود والنصارى ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، يجد المتأمل بأنّ الله سبحانه وتعالى قد وصف مزاعم اليهود والنصارى تلك بالأماني، ذلك أن أتباع كلّ دين أو ملة يتمنون في دواخلهم أن تكون الجنة من نصيبهم وحدهم، وحكرًا عليهم، لذلك جاء الاحتجاج الإلهيّ عليهم في الآية الكريمة نفسها بقوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.

وقد وضع سبحانه وتعالى قاعدة عامة للنجاة واستحقاق الرحمة في الآخرة وهي التسليم والانقياد له سبحانه. ووفقًا للتعبير القرآني في الآية الكريمة ﴿بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، والتسليم هنا يعني وجود القابلية والانقياد النفسي والاستعداد لاتباع الحقّ فور التبين والوقوف عليه، سيما إذا اقترنت أعمال الشخص بالخير والإحسان للناس ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ، أي إنّ الله سبحانه يجازيه خيرًا بغضّ النظر عن الأسماء والصفات الدينية التي كان عليها في دنياه، سواء كان مسلمًا أو يهوديًّا أو مسيحيًّا، سنيًّا كان أم شيعيًّا، فكلّ هذه الأسماء ليست مهمّة عند الله سبحانه، بقدر أهمية أن يمتلك هذا الإنسان حالة الانقياد للحقّ عندما يتبيّن له، وأن يكون مسلكه الإحسان للناس عامة، وبذلك يكون هذا الصنف من الناس وفقًا للآية الكريمة: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

وهناك نصوص دينية كثيرة تشير إلى استحقاق الكثير من البشر الرحمة في الآخرة بغضّ النظر عن اعتقاداتهم الدينية. فقد ورد في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [سورة النساء، الآية: 97] فهذه الفئة من الناس مقصّرون دون شك، إذ كان بإمكانهم بلوغ الحقّ لكنهم تقاعسوا عن ذلك، إلّا أن الآية الكريمة تستثني فئة أخرى من الناس بالقول ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [سورة النساء، الآية: 98]، وتفسير ذلك أنّ الظروف التي أحاطت بهؤلاء المستضعفين لم تمكنهم من بلوغ الحقّ والوقوف عليه، لذلك تكمل الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿فَأُولَـٰئِكَ عَسَى اللَّـهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّـهُ عَفُوًّا غَفُورًا.

المتعصّبون واحتكار الجنة

في مقابل ذلك، هناك متديّنون في كلّ الأديان والمذاهب ظلّوا باستمرار يرون الجنة حكرًا عليهم. فقد نقل عن أحد الكهنة المسيحيين في القرن الثالث عشر الميلادي، أنه قال: «إنّ نسبة الناجين يوم القيامة لا تتجاوز الواحد من كلّ مئة ألف شخص! أي عشرة على مليون! وأمّا البقية فمصيرهم إلى النار وبئس المصير»[1] .

وعلى غرار ذلك تجد مثل هذا القول عند المسلمين، فهناك اليوم نحو ثلاثة أرباع البشرية من غير المسلمين، لكن لو سألت بعض المسلمين عن مصير هؤلاء في الآخرة، لما تردّد في اعتبارهم بأجمعهم من أهل النار. بل إنّ الأمر لن يقف عند هذا الحدّ، فلو سألت عن مصير الربع الباقي من البشرية، أي المسلمين، وما إذا كانوا جميعهم من الناجين يوم القيامة، فسيرد عليك بالنفي المطلق، محدّدًا بأنّ أهل الجنة هم الفرقة الناجية فقط، ويعني بذلك جماعته وأتباع مذهبه دون غيرهم، ولو شئنا المضيّ أكثر وسألنا هذا المتعصّب عن مصير أتباع مذهبه أنفسهم، وما إذا كانوا جميعًا من أهل الجنة؟ فسيتضح لنا حينها أنّ عنده تصنيفات حتى داخل مذهبه، وهم بذلك لن يدخلوا الجنة جميعًا!.

ومن طرائف ما ذكر في هذا الشأن أن خطيبًا صعد المنبر وأخذ يتحدث عن حوض الكوثر، وأنّ سعته من صنعاء إلى إيلات، ويقف عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ليسقي الناس العطاشى يوم القيامة. ثم أخذ الخطيب في التفصيل، بأنّ غير المسلمين كلّهم بأجمعهم لن يسقيهم الإمام عليّ من حوض الكوثر، ثم مضى في القول بأنه لن يسقي كلّ المسلمين، وإنما سيقتصر في ذلك على الشيعة وحدهم، بل وذهب أبعد من ذلك في القول بأنه لن يسقي كلّ الشيعة من الحوض وإنما سيستثني الكثيرين حتى من الشيعة أنفسهم، فمن لا يقلّد مرجعًا دينيًّا معتبرًا (الذي يقلده الخطيب نفسه) فلن يذوق من الكوثر، والشيعي غير الملتزم سيطرد عن الحوض، ومن زنى أو شرب الخمر أو كذب أو اغتاب أحدًا فسيطاله المصير نفسه، عندها ردّ عليه أحد المستمعين بالقول أن أحدًا لن يشرب من هذا الحوض إلّا الإمام عليّ نفسه!.

سعة الرحمة الإلهية

وعلى النقيض من ذلك، نجد النصوص الدينية تتحدث باستفاضة عن سعة رحمة الله تعالى، تلك الرحمة التي وسعت كلّ شيء. فقد خلق الله الناس ليربحوا عليه، جاء في الحديث القدسي: «إِنَّمَا خَلَقْتُ الْخَلْقَ لِيَرْبَحُوا عَلَيَّ وَلَمْ أَخْلُقْهُمْ لأَرْبَحَ عَلَيْهِمْ»[2] .

كما ورد في السّياق أنّ أعرابيًّا دخل على النبي فدعا في الصلاة: «اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا»[3] .

وجاء في الآية الكريمة ﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ[سورة هود، الآية: 119]، فهل من المتصوّر أن هذا الخالق الذي خلق البشر ليرحمهم، أن يُدخل منهم الجنة التي عرضها السموات والأرض عشرة أشخاص من كلّ مليون فقط، فيما يزج بالباقين في النار!. إنّ النصوص الدينية دأبت باستمرار على غرس الأمل في قلوب الناس، والتفاؤل برحمة الله التي تتسع إلى الحدّ الأقصى من أبناء البشر، باستثناء أولئك الجاحدين المعاندين فقط. وقد ورد عن الإمام الصادق قوله: «إنّما يكفر إذا جحد»[4]  ، أي إذا تبيّنت لهذا الإنسان الحقيقة كاملة ثم أنكرها وجحدها، فهذا هو الكافر، والمعلوم أن أكثر الناس ليسوا كذلك.

وعلاوة على ما سبق، فثمّة نصوص دينية لافتة تشير إلى أن الأصل في غالب البشر هو النجاة من النار في الدار الآخرة. فقد قيل للإمام عليّ بن الحسين، أنّ الحسن البصري يقول: «ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ وإنّما العجب ممن نجا كيف نجا»، فقال الإمام زين العابدين: «أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا وأما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله»[5] . من هنا يتبيّن أنّ الأصل في البشر النجاة يوم القيامة، وأنّ العذاب هو الاستثناء. ومما يشير إلى المدى الذي تبلغه رحمة الله تعالى، ما روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أنه قال: «إذا كان يوم القيامة، نشر الله تبارك وتعالى رحمته، حتى يطمع إبليس في رحمته»[6]  ، ولنا أن نتصوّر كيف أن رحمة الله من السّعة بحيث يطمع فيها حتى إبليس نفسه!.

وللإمام الخميني رأي لافت في هذا السّياق، يقول فيه بأن أكثر الكفّار معذورون، فهم بذلك ممن يدخلون تحت رحمة الله تعالى في الآخرة. ويُعلّل سبب ذلك في كتابه المكاسب المحرمة بأنّ «أكثرهم (الكفار)، إلا ما قلّ ونذر، جهّال قاصرون لا مقصّرون»، ثم يفصل في ذلك بالقول «فالغالب فيهم أنه بواسطة التلقينات من أول الطفولة والنشوء في محيط الكفر، صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة، بحيث كلّ ما ورد على خلافها، ردّوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحقّ، من بدو نشوئهم، فالعالم اليهودي والنصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة، وصار بطلانها كالضروري له؛ لكون صحة مذهبه ضرورية لديه فلا يحتمل خلافه، نعم؛ فيهم من يكون مقصّرًا لو احتمل خلاف مذهبه وترك النظر إلى حجته عنادًا أو تعصّبًا»[7] . كما ذكر الشهيد المطهّري في كتابه «العدل الإلهي» فصلًا كاملًا على هذا الصّعيد، أشار فيه إلى أرجحية الخاتمة الحسنة في الآخرة لأغلب الناس، يقول رحمه الله تحت عنوان (الرحمة الشاملة): ليست المغفرة ظاهرة استثنائية وإنّما هي قانون كلّي مستنتج من غلبة الرحمة في نظام الوجود، ومن هنا يظهر أن المغفرة الإلهية شاملة تظلّل جميع الموجودات في حدود قابليتها وأماناتها.

ويضيف: وأصل الفوز بالسعادة والنجاة من العذاب شامل لكلّ الناجين؛ ولهذا يقول تعالى: ﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ [سورة الأنعام، الآية: 16] فلو لم تكن الرحمة لم يَنْجُ أحدٌ من العذاب[8] .

من هنا، ينبغي أن يكون أفق الإنسان المسلم أفقًا واسعًا، بحيث يرجو الخير والرحمة لجميع الناس. فيما عدا أولئك الذين ثبت أنهم معاندون، بعد أن بلغهم الحقّ فرفضوه، علمًا بأن من الصّعب إن لم يكن من المتعذّر ثبوت هذا الأمر على غالبية الناس. أما الكلام حول انتشار وسائل الإعلام وطغيان العولمة الثقافية والمعرفية، فهذا وحده قد لا يُشكّل حجة قاطعة، ذلك ـ وفقًا للإمام الخميني ـ أنّ الذهنية التي نشأ عليها غالبية الناس هي في اعتبار عقائدهم وأديانهم هي الحقّ المحض، وبذلك لا ينقدح في أذهانهم أية احتمالات مغايرة، فإذا كان الأمر على هذا النحو فقد يكون هؤلاء معذورين أمام الله جلّ شأنه. ولا يبقى هنا سوى القول أنّ الجنة هي جنة الله، فما الذي سيخسره المسلمون لو دخل غيرهم الجنة!، سيما ونحن نرى في الحياة الدنيا كيف أنّ فضل الله قد وسع كلّ البشر.

 

الخطبة الثانية: التعاون الخليجي بين التعثّر والاتّحاد

ورد عن رسول الله أنه قال: «أَيَّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَماعَةِ، وَإِيّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ»[9] .

تقف المنطقة الخليجية اليوم أمام تحدّيين اثنين؛ يتمثّلان في الأطماع الأجنبية في ثرواتها الهائلة، وفي كيفية تسخير واستثمار هذه الثروة لخدمة شعوبها.

إنّ من المعروف أنّ الشعوب الخليجية ورغم قلة كثافتها البشرية، إلّا أنها شعوب متجانسة في الغالب، عرقيًّا ودينيًّا وقوميًّا، وبعد أن كانت هذه المنطقة تعيش فقرًا مدقعًا، حباها الله بالثروات الهائلة، نتيجة تفجّر آبار النفط في صحاريها وأراضيها، هذا النفط الذي يمثل حاجة ماسّة للبشرية اليوم، شكل اكتشافه منعطفًا في تاريخ هذه المجتمعات التي كانت تعيش حياة بدائية بسيطة، وإذا بها تمتلك هذه الثروات الكبيرة. من هنا باتت المنطقة تقف أمام تحدّي مواجهة النفوذ الأجنبي الطامع في ثرواتها، والتحدّي الآخر هو في إمكان تحويل هذه الثروة إلى إسعاد وتنمية شعوب هذه المنطقة الناشئة، تنمية حقيقية تلبّي احتياجاتها العملية وبنيتها التحتية.

إنّ مواجهة تحدّيات الأطماع الأجنبية، والإسراع في التنمية، يفرضان على شعوب وحكومات المنطقة الخليجية الاتّحاد والتعاون الكبير فيما بينها. ضمن هذا السّياق نفهم قول النبي الأكرم: «أيّها الناس، عليكم بالجماعة وإيّاكم والفرقة»، فالعمل الجمعيّ هو الذي يمنح المتعاونين المجتمعين قوة مضاعفة، هذا ما تهدي إليه الفطرة، ويرشد إليه العقل، وتؤكّده التجارب البشرية.

مجلس التعاون والاستجابة للتحدّيات

وبغضّ النظر عن ظروف النشأة، جاء إنشاء مجلس التعاون الخليجي استجابة للشعور بهذا التحدّي. ذلك إنّ من مصلحة شعوب هذه المنطقة، المتجانسة قوميًّا وعرقيًّا ودينيًّا، ناهيك عن التقاليد والأعراف والتاريخ، من مصلحتها قيام تعاون واتّحاد فيما بينها، حتى ينعكس هذا التعاون فائدة ومصلحة لهذه الشعوب بمجملها.

لكنّ شعوب المنطقة الخليجية باتت تراقب بأسف بالغ تعثّر مسيرة مجلس التعاون، بعد أكثر من ثلاثة عقود على إنشائه. فلا يزال متعثّرًا قياسًا على تجارب الكيانات الأخرى، كالاتّحاد الأوروبي الذي قطع أشواطًا كبيرة على طريق التعاون. في مقابل ذلك نجد كيف يجري في مجلس التعاون طرح المشاريع والمقترحات، واجتماع القادة واتخاذ القرارات، ثم لا تجد الشعوب أثرًا ولا نتيجة، اللهمّ إلّا من النزر اليسير والخطوات المتواضعة، فلا أثر لسوق خليجية، ولا جواز سفر خليجي موحّد، ولا عملة موحّدة، ولا نظامًا جمركيًّا ولا سياسة خارجية موحّدة، وغيرها من المشاريع التي ظلّت حبيسة الأدراج.

إنّ من أبرز أسباب التلكؤ في مسيرة مجلس التعاون الخليجي هي غياب الإرادة الشعبية. فالتعاون والاتّحاد الحقيقي هو الذي يتأتّى على أساس الإرادة الشعبية لشعوب ومجتمعات المنطقة، في حين لا تزال المشاركة الشعبية محدودة، إلّا في أضيق نطاق، من هنا فلا تتمثل الإرادة الشعبية ضمن القرار السّياسي تمثّلًا كامًلا وواضحًا، كما هو الحال في المجتمعات الأخرى. إنّ غياب الإرادة الشعبية جعل هذا الكيان وكأنه مقتصر على إرادة الحكام أكثر من تمثيله لإرادة الشعوب. لذلك تلحظ الشعوب كيف تصبّ المقررات ضمن المنحى الذي يخدم هؤلاء الحاكمين أكثر مما يخدم مصالح المواطنين في المنطقة الخليجية.

كما جاء تلكؤ مسيرة مجلس التعاون الخليجي نتيجة غياب الإرادة السّياسية في بلورة اتّحاد وتعاون حقيقي بين دوله. وبعيدًا عن الكلام والشّعارات تبدو الإرادة السّياسية الحقيقية غائبة وبعيدة عن التشكّل، ولا شكّ بأنّ مصالح الشعوب إنّما تتحقق بالتعاون والاتّحاد الحقيقي.

ونشير في هذا الشّأن إلى أنّ الإعلام الخليجي لعب دورًا مسمّمًا للأجواء، ومعكّرًا لصفو العلاقات بين الحكومات والشعوب والمذاهب في المنطقة. ولعلّ ما حصل من تراشق ومشاحنات إعلامية على هامش قمة مجلس التعاون الأخيرة المنعقدة في الكويت[10]  ما يكشف حقيقة الحال على نحو كبير، فبعد اعتراض إحدى دول المجلس (سلطنة عمان) على شكل التعاون المقترح لعمل المجلس، هبّ كثيرٌ من الكتّاب والإعلاميين نحو مهاجمة هذه الدولة، حتى إنّ بعض الكتّاب بدو أكثر مزايدة من الحكّام أنفسهم، هذا إن لم يكونوا مأمورين من هذه الجهة أو تلك. هذا النوع من الطرح الإعلامي يُسمّم الأجواء، ويُعكّر صفو العلاقات داخل المنطقة الخليجية، لذلك يبدو من المستغرب جدًّا ترك هؤلاء الإعلاميين يبثّون الكراهية بين مجتمعات المنطقة.

المجتمعات الخليجية وإرادة التعاون

إنّ ضعف الإرادة في التعاون والاتّحاد لا يقتصر على السياسيين وحدهم، وإنما ينسحب على المكونات الاجتماعية لشعوب المنطقة. وإذا كان هناك من عذر في إلقاء اللوم والمسؤولية على الحكّام والسّياسيين في غياب التعاون، فما العذر في غياب وعدم تبلور إرادة التعاون ضمن سائر الفئات الاجتماعية، فما الذي يمنع علماء الدين من التعاون والوحدة، ولماذا لا يتكتّل المثقفون مع بعضهم بعضًا. ولعلّ ما حصل من مشاحنات على خلفية انتخاب إدارات الأندية الأدبية في المملكة خير مثال، فقد أعقب كلّ عملية انتخاب تبادل الكثير من النزاع والتراشق والتشكيك والطعون، وهذا دون شك يدلّ على غياب أخلاقيات وإرادة التعاون قبل أيّ شيء آخر. إنّ إرادة التعاون في مجتمعاتنا تُعَدّ ضعيفة على مختلف المستويات.

 وفي المحصّلة، ندعو إلى الإقرار بالإرادة الشعبية في المنطقة الخليجية، ليتبلور على أساس تلك الإرادة الاتّحاد والتعاون الحقيقي بين الكيانات القائمة، كما نرى حاجة المنطقة، إلى التعاون والتكامل من أجل التنمية والوفاء باحتياجات الشعوب، هذه الشعوب التي تمتلك ثروات هائلة، لكنها لا تزال تفتقر إلى احتياجات أساسية، فمن يصدّق أن في هذه المنطقة حالات كثيرة من الفقر والحاجة إلى أبسط الخدمات في البنية التحتية والتعليم والصحة والسكن!.

كما أنّ على مجتمعاتنا الخليجية أن تبلور إرادة التعاون في داخلها، وأن تتجاوز الخلافات والحواجز فيما بينها، كقوى وشخصيات ومجتمعات، حتى تستطيع أن تفرض إرادة التعاون والاتحاد هذه على المستوى السّياسي.

* خطبتي الجمعة 9 صفر 1435ﻫ الموافق13 ديسمبر 2013م.
[1] هاشم صالح. مدخل إلى التنوير الأوروبي، الطبعة الأولى 2005م، (بيروت: دار الطليعة)، ص26.
[2] جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، ج1، ص٢٢٨.
[3] صحيح البخاري، ج4، ص89، حديث 6010.
[4] الكافي، ج2، ص399، ح3.
[5] بحار الأنوار، ج ٧٥ ص١٥٣، ح17.
[6] بحار الأنوار، ج٦٠ص٢٣٦، ح77.
[7] الإمام الخميني، المكاسب المحرّمة، ج1، ص133.
[8] العدل الإلهي، الشيخ مرتضى مطهري، ص283.
[9] كنز العمال، المتقي الهندي، ج١ص٢٠٦، ح1028، ومسند أحمد، ج٥ ص٣٧١.
[10] استضافت دولة الكويت يومي الثلاثاء والأربعاء 7 ـ 8 صفر 1435ﻫ، الموافق 10ـ11 ديسمبر 2013م قمة مجلس التعاون لدول الخليج الـ34.