اللمز والتنابز من مساوئ الأخلاق

الشيخ حسن الصفار *
قال الله العظيم في كتابه الحكيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقابالحجرات آية11

حتى تكون الأجواء في المجتمع الإسلامي صافية نقية تساعد الإنسان على التآخي والتعايش مع الآخرين، فإن الإسلام يؤكد على مجموعة من الأخلاقيات التي تحفظ لكل إنسان في المجتمع مكانته واحترامه.

احترام الإنسان من قبل الآخرين يدخل على نفسه السرور، وينمي فيه احترام الناس فتصبح حالة الاحترام في المجتمع متبادلة.

أما إذا أسيء لشخص وهذا الشخص رد الإساءة بالإساءة عندها تكون الأجواء معكرة وتنتشر فيها هذه السمة السيئة. وهنا تجد دقة القرآن الكريم في ألفاظه وعباراته ﴿ولا تلمزوا أنفسكم!

وهل يلمز الإنسان نفسه؟

نعم يلمز الإنسان نفسه بطريق غير مباشر، فإذا لمز الإنسان غيره فهو يشجع على أن يُعامل بنفس المعاملة، ويشجع على انتشار هذه العادة في المجتمع، وبلا شك أن هذا الأسلوب سوف يستخدم معه عاجلاً أم آجلاً، من الشخص الذي أساء له أو من غيره.

الآية الكريمة تتحدث عن مفردتين من المفردات السيئة السلبية التي تسقط حالة الاحترام بين الناس، وهما (اللمز) و (التنابز).

اللمز:


واللمز هو إعابة الشخص بمحضره، وقد يكون إشارة بالرأس والعين والشفة مع كلام خفي. وهو ممارسة سيئة وعدوان وقح في التعامل مع الآخرين.

أن تعيب شخصاً بوجهه وبمحضر من الآخرين وتنتقده بكل قسوة وبلا مبالاة بمشاعره وأحاسيسه، وهي حالة تسقط شخصيته، وتهز معنوياته، وتجرح عواطفه ومشاعره وبالتالي تدفعه إلى التفكير في الانتقام، وتؤجج في نفسه غضباً وسخطاً على من وجه إليه هذه الإساءة وعلى المجتمع الذي كان شاهداً صامتاً على الاعتداء عليه.

لا يخلو إنسان من العيوب ونقاط ضعف، فكل إنسان في هذه الحياة معرض لذلك، يقول الإمام الشافعي في الشعر المنسوب إليه:

لسانك لاتذكر به عورة امرئ



فكلك عورات وللناس ألسن



وعينك إن أبدت إليك معايباً



فصنها وقل ياعين للناس أعينُ


كما أن للآخر نقاط ضعف فلك مثل الذي له ولربما أكثر، فلا تنظر وتذكر عيوب غيرك ناسياً أن لك عيوباً وللناس أعيناً ينظرون بها إلى عيوبك، ولهم ألسن يتحدثون بها عنك.

تعاملك مع الناس سوف ينعكس عليك، فتعامل معهم بالحسنى.

إذا رأيت عيباً من أحد فحاول أن تنصحه وتوجهه بمفرده لا أمام الناس حتى لا يظن بأنك تريد الإنقاص من شأنه وتحقيره، فذاك يؤجج نيران العداوات ويوقظ الفتنة.



التنابز:


والنبز هو أطلاق الألقاب السيئة المستهجنة على الآخرين، وهو أمر سيء لا يرتضيه أحد، والأسوأ إذا كان الأمر بين الجماعات ( ولا تنابزوا بالألقاب) أي لا يلقب بعضكم بعضاً بلقب سيء يغضب ويؤجج الطرف الآخر، وفي بعض الأحيان قد يؤدي ذلك إلى نشوب حالة من القطيعة والاحتراب.

التنابز بين الأفراد:


كثيراً ما كنا نرى كيف يطلق شخص ما لقباً على شخص آخر بسبب شجار أو سخرية أو لأي سبب، ويبقى هذا اللقب سمة له يلاحقه أينما حل، ولربما حتى بعد موته!

اعتاد الناس على هذا الأمر دون أن يتنبهوا إلى آثاره السلبية على النفس وعلى المجتمع، دون أن يدركوا أن هذا الأمر يدخل في التنابز بالألقاب الذي ينهى عنه القرآن الكريم.

يلقبون شخصاً لعلة فيه كالعرج فيدعونه بالأعرج ولا يعرف بعدها إلا بهذه التسمية، وهناك شواهد كثيرة ولها شهرة كانت سبب تسميتهم إما لمرض أو لعاهة في المظهر كالأعرجي، والأصمعي، والجاحظ، أو لحادث معين كالمبّرد العالم النحوي الكبير.

أطلق على بعض الأشخاص ألقاباً أصبحوا يعرفون بها، وصارت أسماء عوائل، يتجرع مرارتها الأبناء حتى اليوم.

التنابز بين القبائل والجماعات:


يبدو أن هذه العادة كانت منتشرة في الجاهلية حيث كانت بعض القبائل تحاول أن تفتعل لقباً للقبيلة الأخرى سيما إذا كان بينهما تنافس أو نزاع بمناسبة أو بدون مناسبة، ويثيرون غضبهم بذلك اللقب وفي بعض الأحيان كانت تثور حروب بسبب تلك الألقاب كما هو الحال للقبيلة التي أطلق عليها لقب (أنف الناقة) لسبب أو لآخر فكانوا يغضبون وينزعجون وحصلت من جراء ذلك مشاكل ونزاعات إلى أن تنبّه أحد شعراء هذه القبيلة فقال لهم: إلى متى ونحن نعيش هذه المشكلة؟ فلنتقبل هذا اللقب بنفس راضية ونحوله إلى نقطة ايجابية فانشأ قصيدة قال فيها عن قبيلته:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم



وهل يساوى بأنف الناقة الذنب


ولا شك أن الأنف أشرف من الذنب.

هذه الحالة كانت متداولة في المجتمعات الجاهلية وبقيت آثارها في المجتمع الإسلامي ونجد هذه الحالة موجودة في مختلف المجتمعات التي يتحفّز بعضها للإساءة لبعض ويطلقون على بعضهم ألفاظاً إما ذات إيحاءات دينية أو سياسية أو اجتماعية من أجل أن تبقى هذه الصفة ويعاب بها أهلها كلما ذكروا.

هذه الحالة السلبية ويا للأسف متجذرة في بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وكثيراً ما تسببت في خلق نزاعات وخلافات بين أهل بلد وآخر وجماعة وأخرى.

في الأوساط الدينية:


الإنسان المسلم المتدين عنده كتاب قيّم يعلمه التحلي بالخلق الكريم، وعنده من التعاليم الإسلامية الكثير والتي تجعل منه إنساناً في أعلى مراتب الكمال لو اتبعها وطبقها. فكيف يكون عذره إذا ساء خلقه مع الآخرين، والأمر الأشد ضراوة أن يكون ذلك باسم الدين والدفاع عنه!

كان يطلق مثلاً على أتباع أهل البيت لقب (الرافضة، أو الروافض) من قبل مناوئيهم وذلك للإنقاص من شأنهم واستثارتهم، وقد كان ذلك يؤذيهم ويزعجهم حتى أن الإمام جعفر بن محمد الصادق ومن باب التخفيف عنهم ومواساتهم وتهدئتهم حتى لا يستدرجون لمثل هذا الأمر كان يقول : «ما لهم ولكم؟ وما يريدون منكم، وما يعيبونكم؟ يقولون الرافضة، نعم والله رفضتم الكذب واتبعتم الحق...» [1] .

ولكن يبقى هذا اللقب نبزاً للشيعة من قبل الآخرين وهو لا يجوز ﴿ولا تنابزوا بالألقاب ولكن مع الأسف لا يزال هذا اللقب رائجاً عند الأطراف الأخرى نسمعه في الإذاعات ووسائل الإعلام، ونقرأه في بعض الفتاوى والكتب الدينية!

يطلق مثلاً على أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب لقب (الوهابيون) وهم ينزعجون من هذا اللقب ويعترضون عليه ويعتبرون أنفسهم سلفيين أو أهل السنة والجماعة, كما أن غيرهم ينزعج من إطلاق تلك الألقاب عليهم، فليكن الاحترام متبادلاً.

وفي داخل المذهب الواحد تجد الأمر قائماً حيث تطلق فئة على فئة أخرى من نفس المذهب لقباً تريد أن تنقص من قدرهم وتحقرهم، هؤلاء الفلانيون أتباع فلان من الناس، وهؤلاء الكذائيون أتباع الحزب والتوجه الكذائي.

أن تنسب جماعة إلى مرجع معين أو قائد لهم، أو إلى توجههم هذا لا يعيب، بل إن كل إنسان يفتخر بما هو تابع له، ولكن أن يكون قصدك الإنقاص والتحقير فهذا لا يجوز، ولا يقبل من إنسان مؤمن، وعيب أن يسود في أوساطنا الدينية.

ينبغي أن نكف عن هذا الأمر، وأن نتنبه إلى آثاره السلبية التي تجر لنا الويلات.

الأثر السيئ:


هذه الحالة السلبية ينبغي مكافحتها في المجتمع حتى يعيش الناس حالة احترام متبادل فيما بينهم وهو أهم ما ينبغي أن يشعر به الإنسان، فإذا لم يحترم المجتمع أفراده فأين يجدونه حينئذ؟

ومن هنا إذا درسنا عمق المشكلة النفسية عند الإنسان الشرقي الذي يعيش حالة من الضعف والذل والهوان سنجد أن السبب في ذلك أنه اعتاد على الأمر بشكل طبيعي، وصار يواجه إذلالاّ مفروضاً عليه، وبلا مبالاه! حتى اسمه وفي صغره يصغّر وفي ذلك انتقاص من شأنه، فمن اسمه علي مثلاً يسمى (علووه) حسن (حسنوه)، وهكذا!

حتى عندما يكبر ويدخل المدرسة يعامل بالذل من حيث أساليب التربية الخاطئة، كالضرب والإهانة والتوبيخ القاسي، كان الأب في السابق يذهب بابنه إلى المعلم ويوصيه: خذه لحماً وأرجعه لي عظماً!

أي ربّيه كيف تشاء، المهم أن يتعلم!

وفي المجتمع يواجه الطفل هذا الأمر مع من يخالطهم، فكيف نتوقع منه أن يكون قوي الشخصية وأن يكون ذا معنويات رفيعة وثقة عالية! بينما نجد في المجتمعات المتقدمة عكس ذلك، بل قبل ذلك في تعاليم الإسلام وآدابه حيث كان الأئمة يكنون أطفالهم وينادونهم بكناهم، ويأمرون الناس بذلك ففي الحديث: «كنّوا أطفالكم حتى لا يسبقكم أصحاب السوء إلى تسميتهم».

ينشأ الطفل وهو يرى من حوله ينتقصون منه ولا يعطونه أهمية تذكر، ولذلك عندما يبلغ تجده يتذمر ويتمرد ليثبت أن له شخصية ورأياً ولا يقبل الإقصاء، وتلك نزعة نفسية. وقد تكون ثورته هذه متأخرة بعد أن أخذت أساليب التربية في طفولته مأخذها منه.

حتى تسمية الأطفال عندنا تنم عن الانتقاص من شأنهم كما يقول أحد الكتاب والباحثين فالبعض يسمون الطفل (عَيّل) والبعض ( وِرع) وأفدح الأسماء كما هو عندنا (جاهل)! وكلها أسماء تقترب من نفس التعريف الضعف والقصور والجهل.

من المهم جداً أن نشعر بالمسؤولية تجاه بعضنا البعض فاحترام أبناء المجتمع لبعضهم هو تعزيز لقيمتهم في ذاتهم حتى الصغار، أما إذا أهان كل واحد الآخر فبالتالي يعيش الجميع وضع الإذلال والهوان فهذه الآيات الكريمة تنبهنا إلى هذه الحقيقة ﴿ولاتلمزوا أنفسكم ولاتنابزوا بالألقاب.

نسأل الله أن يلبسنا أثواب العز والكرامة، وأن يجملنا بحسن الخلق ومحبة الناس.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله الطاهرين.
([1] ) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج26، ص36، ط3، دار احياء التراث العربي.